Logo dark


معرفة الهوية واعادة بناء الذات قراءة في المشروع الفكري للسيد حسين الحوثي*

( باحث في الفكر العربي الإسلامي , arafatalromah@gmail.com )

 

 بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة:

تحاول هذه الدراسة أن ترسم أهم الملامح التي حددت وبينت معالم المشروع الفكري للسيد حسين الحوثي ( 1960 ـ 2004م ) الذي اتخذ من القرآن قاعدة ومنطلقاً لمشروعه النهضوي وتحاول أن تصنع له إطاراً يستطيع من خلاله الدارسون والمهتمون التعرّف عليه ـ كما صاغه الحوثي وليس كما قدمه أعداؤه أو محبوه ـ وليس من مهام هذه الدراسة أن تغوص في مضمون المشروع الفكري القرآني للحوثي أو المسيرة القرآنية كما يطلق عليها أنصارها ـ لأن ذلك مشروع ضخم دونه فريق متخصص من الدارسين، لكن الهدف الرئيس الذي تتوخاه هذه الدراسة هو إعطاء صورة واضحة الملامح للمشروع والتعرف على أبرز سماته وخصائصه .

يمكن أن نقول بأن نجاح كل مشروع فكري يُقاس بمدى إلمامه الكامل بذاته ـ أو هويته التي تتحدد من خلال الاجابة عن سؤال جوهري فحواه: من نحن؟ وماذا نُريد؟ وبمعرفته بتراثه وماضيه كجزء أصيل من هويته وبمدى ملامسته لهموم ومشاكل المجتمع اليومية المعاشة، أي معرفته التامة بالحاضر وبكل العوائق التي تقف حاجزاً بينه وبين الانطلاق والسير في طريق المستقبل ومن خلال نظرته المستقبلية وبرسمه معالم الطريق الموصل إليه، وإذا شبهنا المشروع الفكري بمثلث متساوي الأضلاع يمكن أن نجعل من معرفة الهوية قاعدة للمثلث ونجعل من معرفة الماضي ضلعاً، يقابله ضلع الموقف الحاضر والتطلع للمستقبل.

وسوف يستخدم الباحث المنهج التحليلي في قراءة وتحليل النصوص وربما يستأنس بالمنهج المقارن لمقارنة أفكار الحوثي بغيره من أصحاب المشاريع الإصلاحية لمعرفة مدى أصالة وجدة الأفكار التي توصل إليها وما يميزها عن غيرها من الأفكار

وفي الأخير نقول: إن كل جهدِ انساني بحكم أنه كذلك معرض للنّقص، وكما قال العماد الأصفهاني: إني رأيت أنه لا يكتب إنسان كتاباً في يومه إلا قال في غده: لو غُيّر هذا لكان أحسن، ولو زِيد كذا لكان يستحسن، ولو قٌدّم هذا لكان أفضل، ولو تُرك هذا لكان أجمل، وهذا من أعظم العِبر وهو دليل على استيلاء النقصِ على جملة البشر" .

وفي الأخير نحمد الله ونثني عليه على كل حال كما قال سبحانه: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وسلام عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} الصافات180ـ 182

الهوية أو الموقف من الذات

كل مشروع فكري هو باختصار مشروع يشتغل على الداخل الإنساني النفسي، على الذات ـ يبدأ من الأفكار لتغيرها أولاً ومن ثمّ الانطلاق بها ومنها لتغيير الواقع، وذلك أن كل مشروع فكري ينطلق من هاجس إصلاح الأفكار أولاً؛ لأن الفرد يعيش ويتحرك كما يفكر والمجتمعات كذلك تحركها الأفكار في إطار العقل الجمعي ـ من أجل أن يجعل من الفرد لبنة قوية تصلح لبناء أسرة ويجعل من الأسرة قاعدة في بناء المجتمع ويجعل من المجتمع عموداً يرتفع عليه بناء الأمة الواحدة في المستقبل، وإذا طبقنا تلك القواعد على المشروع الفكري للسيد حسين الحوثي نلاحظ أنه قد جعل من معرفته لهويته قاعدة لفهم الواقع من خلال إلمامه بتراث أمته وتطلعه لتغير واقعها والانطلاق بها نحو المستقبل، فقد أولى مفهوم الهوية ـ أو الذاتية كما يطلق عليها المناطقة اهتماما بالغاً لما له من أهمية تأسيسية في مشروعه الفكري وخلافاً لكل المشاريع النهضوية التي تبدأ من الذات لتدرك الموضوع، انطلق الحوثي من دراسة القرآن  كموضوع  للولوج منه إلى ذاته لتأهليها التأهيل الذي يليق بالتعامل مع القرآن ـ كنص من الخالق للمخلوق، ومن ثمّ الانطلاق مرة أخرى من الذات الفاعلة بعد تشبعها بالثقافة القرآنية إلى الواقع المعاش لفهمه والعمل على إصلاحه وتغيره وهذا هو ما يُميز الذات الفاعلة التي تحرك الشخصيات الكاريزمية عبر العصور عن غيرها من الذوات الخاملة التي ترى سكون الواقع قاعدة وليس العكس، فالذات الفاعلة هي ذات ثائرة على مر العصور "وأكثر ما تم تحديد الذات الفاعلة من قِبل المؤرخين وعلماء الاجتماع في المجتمعات الحديثة بأنها نتاج "التاريخانية" أي نتاج قدرتنا على إنتاج العالم وتحويله " (1) 

وهو محق فيما ذهب إليه، وذلك لأن الإنسان أولاً لا يستطيع أن يتعرف إلى ذاته ويعرفها معرفة حقيقية إلا من خلال خالقها وعبر النص القرآني الذي قال عن ذلك: ( ألا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِير ) الملك:14

وكما قال الحوثي: "إذاً ألسنا في الواقع لا نعلم شيئاً {وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً}(النحل78) لكن أراد أن نتعلم وأن نتعلم الكثير لكن على يده هو ومن خلال القرآن الكريم فقط " (2).

وثانياً، وهو الأهم لأن لفظ الذات لفظ إنساني يتعلق بذات الإنسان لكن المتكلمين استعاروه ليصفوا به الذات الإلهية، فلفظة الذات كما لاحظ ابن حزم الاندلسي ليست وصفا لله في القرآن× بل هي وصف للإنسان كما هو واضح من قوله تعالى [إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ] الملك:13. أو من حيث هو بعد باطني أو اجتماعي له (وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ] الانفال:1 . أو من حيث هو توجه في المكان [ذَاتَ اليَمِينِ وَإذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ] الكهف:17. أو من حيث النسبة إلى الأشياء المعنوية [ذَاتَ بَهْجَةٍ َ] النمل:60. أو [ذَاتِ الشَّوْكَةِ] الانفال:7 أو الأشياء المادية [نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ] المسد:3 (3(

تعريف الهوية:

وكما هو معلوم أن الهوية أو الذاتية " مأخوذة من (هوّ .. هُوّ) بمعنى جوهر الشيء وحقيقته المشتملة عليه اشتمال النواة على الثمرة وثمارها ... وهوية الشيء هي ثوابته التي تتجدد ولا تتغير ... إنها كالبصمة بالنسبة للإنسان يتميز بها عن غيره " (4) 

و الهوية التي تُميز الفرد هي خلاصة تفاعلِ بين الفرد ـ وكذلك المجتمع مع ماضيه الذي يمتد بجذوره بعيداً وبين خبرات الطفولة في شتى المجالات من جهة وبين تطلعاته المستقبلية ضمن الفرص المتاحة والحدود الواقعية لطموحاته الشخصية من جهة أخرى .

وثوابت الأمة التي تتجدد ولا تتغيّر هي الدين  والمعتقد بكافة اشكاله، واللغة باعتبارها قالب للفكر ووسيلة للتفاهم والأخلاق التي تفرّق المجتمع الإنساني عن القطيع الحيواني وكذلك الثقافة باعتبارها أسلوب حياة الفرد والمجتمع على السواء

وفي الفلسفة تُعرف الهوية بحسب المعجم الفلسفي بأنها: "حقيقة الشي من حيث تميزه عن غيره وتسمى أيضاً وحدة الذات"، ويرى ريجارد جنكر أن الهوية الاجتماعية هي "تصورنا حول من نحن ومن الآخرون، وكذلك تصور الآخرين حول أنفسهم وحول الآخرين، وتأتي أثر عملية التفاعل الإنساني، هي تستلزم عمل مقارنات بين الناس كي تؤسس أوجه التشابه والاختلاف بينهم، فأولئك الذين يعتقدون بوجود التشابه بينهم وبين الآخرين يشتركون في هوية تتميز عن هوية الناس الذين يعتقدون أنهم مختلفون ولا يشتركون بذات الهوية " (5) .

وموضوع الهوية (الذاتية) من المواضيع التي ظهرت مع ظهور هاجس النهضة والإصلاح في المجتمعات العربية منذ قرابة القرنين من الزمن وبالتحديد مع الحملة الفرنسية على مصر عام 1798م ـ ويرجع السبب في ذلك إلى شعور المفكرين العرب بالخطر الذي يهدد هويتهم وحضارتهم وتاريخيهم على يد "عدو قوي وخطير يُريد هذا ويعمل جاداً عليه؛ مما ولد قناعة لدى نخبة من العلماء المصلحين بضرورة الانتباه لهذا الموضوع الخطير والتصدي له عبر السير في عملية تغيير وإصلاح للواقع السيء الذي تعيشه الأمة الإسلامية، فكان هذان السببان: الشعور بالخطر والشعور بالحاجة إلى الإصلاح هما اللذان ولدا الاهتمام بموضوع الهوية لدى المفكرين الإصلاحيين، هوية النهضة التي يرومون القيام بها في ذلك الوقت  (6)"

إذاً الشعور بالخطر وهاجس الإصلاح والتغيير من أهم العوامل التي تحرك المجتمعات والأمم نحو العودة إلى الذات والبحث عن الهوية الجامعة التي تتميز بها ـ ولها ومن أجلها عن بقية المجتمعات والأمم التي تعيش معها على ظهر الأرض .

 والخلاصة أن الهوية أو الذاتية تعني بكل بساطة: من أنت في الحياة ومـاذا تُريد منها، فرداً أو جماعة، وتتأسس على الوعي بالخصوصية والتمّيز والتفرد والاختلاف عن الآخر المخالف لك في كل شي، فميزات الفرد هي هويته التي تميزه عن غيره من الأفراد وميزات المجتمع هي هويته المميزة له أيضاً

موقف الحوثي من الذات:

وهذا ما أدركه السيد حسين الحوثي خصوصاً بعد تفرغه لدارسة القرآن وتأملاته في الواقع، وقد حاول مراراً وتكراراً أن يُذكر الناس في خطاباته، منبهاً لهم أن كل معرفة لا تبدأ من معرفة الهوية لتبني الذات ليست معرفة صحيحة، وعلى أقل تقدير تكون ناقصة ومبتورة وكما قال: "أصبحنا لا نعي من نحن، فما الذي تعرف بعد أن تكون لا تعرف من أنت؟ إذا أنت لا تعرف من أنت، ولا تعرف الآخرين من حولك فلا تستطيع أن تبني نفسك فعلاً " (7) .

ومعرفة الهوية شي مهم بالنسبة للفرد وللمجتمع ولذلك يرى الحوثي أن من مهام الإيمان والعقائد في كل زمان ومكان التوجه إلى الذات لإصلاحها وتقويمها والعمل على تغيير الداخل النفسي (الذات) كي ينعكس الأثر في واقع الحياة وعندما ينصرف الإيمان إلى خارج الذات يصبح إيماناً أجوفاً لا يقدم ولا يؤخر ولا ينفع صاحبه لا في الدنيا ولا في الآخرة وكما قال: "أن الإيمان، أن العقائد في الإسلام العظيم كلها عملية .. إيمان يترك تأثيراً على النفس، ثم نفس تترك تأثيرا في واقع الحياة، ما عدا ذلك يعتبر إيماناً أجوفاً، لا يقدم ولا يؤخ، ولا ينفع لا في الدنيا ولا في الآخرة " (8).

وعندما تعرف الذاتُ ذاتها وتؤصل الهوية هويتها تكتسب الثقة اللازمة لبناء الفرد والمجتمع ـ من خلال الثقة بالذات التي تنعكس تميزاً لها عن غيرها مما يدفعها للإبداع والتقدم الذي أتى بكل الحضارات التي عرفتها الإنسانية، على أساس " أن بداية التقدم والحضارة هي الثقة بالذات وبدونها لا يستطيع الإنسان أن يحقق أي شي يُذكر" (9) .

 والعكس هنا صحيح بمعنى: أن عدم معرفة الإنسان من هو في الواقع وما هدفه في الوجود يجعل منه شخصية مستلبة، تابعة لا تستطيع أن تبني ذاتها وليست جديرة ببناء حضارة، لأنها لا تعرف أولوياتها "ومتى فقدنا هويتنا وأصبحنا لا نعلم شيئاً من نحن ومن هم هو الكفيل بأن نفقد أيضاً حضارتنا؛ لأننا لن نصل إلى مستوى أن نكون أمة تنتج وتصنِّع وتزرع وتعلم كل شيء " (10) . 

والجديد في المشروع الفكري للسيد حسين الحوثي أنه جعل معرفة العدو شرطاً للعلم الحقيقي ولمعرفة الهوية، واكتمالاً لنمو الشخصية السوية التي تعرف ذاتها من خلال معرفتها للآخر المخالف لها، وخصوصاً العدو المتربص، وكلما كان العدو قوياً متميزاً تدرك الذات أنها كذلك وتفتخر بذاتها من خلال معرفة العدو، و"يصبح فخراً لنا أن تكون عدوتنا هي أمريكا، وأن تكون عدوتنا هي إسرائيل، من خلالها سنكتشف من نحن، متى ما عرفنا من هم، سنكتشف من نحن، وكيف يجب أن نتعامل معهم، وكيف يجب أن تكون نظرتنا نحوهم " (11) .

ويصبح العلم لديه هو معرفة العدو والجهل هو عدم معرفته وهذا ما يُريده العدو لنا "ونصبح في الأخير كما يريدون، ولنصبح في الأخير لا نعلم شيئاً، لا نعلم حتى من هم! أليس هذا قمة الجهل؟ " (12) . 

وعندما يكون الإنسان جاهلاً فإنه يعيش في الظلام المؤدي إلى التيه ويتلمس طريق الاهتداء من خلال الآخرين، الذين يعرفون نور العلم، وحينها يفقد الإنسان هويته؛ لأنه لا يعرف من هو ولا ماذا يُريد، كونه قد اعتمد على الآخرين في تسيير حياته و يتمكنون من التحكم به وتسخيره لخدمتهم وخصوصاً العدو "فعندما يفقد الناس الهوية فعلاً ستصبح وضعيتك بالشكل الذي تخدم عدوك" (13) . 

فلا بد اذاً للمؤمن من أن يعرف هويته ويتعرف على عدوه من خلال الهَدي القرآني كي لا يعيش الجهل المؤدي إلى التبعية الثقافية التي تفرض عليه في الأخير أن يخدم عدوه دون أن يدرك ذلك، أما اذا أدرك ذلك فتلك هي الطامة الكبرى والمصيبة الأعظم بحسب ما يرى الحوثي. 

العدو في القرآن:

لقد جعل القرآن من معرفة العدو شرطاً للحصول على السعادة في الدنيا والآخرة، وقد حذّر الله آدم وذريته من أن الشيطان هو العدو الأزلي لهم ومن الواجب عليهم أن يعلموا ذلك وأن يتعاملوا معه على هذا الأساس، كما قال تعالى: (إنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ۚ إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ) فاطر:6. حتى وإن ظهر ناصحاً، فهو مدعً وكاذب كما قال الله تعالى (وقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ فدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ ۚ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ ۖ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ) الاعراف: 21ـ 22 

يعرض الحوثي ما حدث لآدم مع عدوه ابليس عندما نسي أنه عدو، موضحاً أن التغافل عن العدو يسبب شقاءً في الدنيا وعذاباً في الآخرة، لأن العدو يتعمد الظهور بثياب الناصح وهو يعمل جاهداً على أن يخرّب حياة عدوه متى ما تغافل عنه، فالعدو يحصل على السعادة من خلال جلب الشقاء لعدوه، هذا ما حصل مع آدم عندما سمع نصيحة إبليس "فإذا كان آدم شقي عندما خرج من الجنة بموقف واحد، ونحن تراكم لدينا الشقاء بشكل رهيب جداً، تراكم الضلال بشكل رهيب جداً " (14) .

والله سبحانه وتعالى قد حذر المؤمنين وبيّن لهم أن العدو التاريخي لكم ـ في كل زمان ومكان ـ هم اليهود، وهو سبحانه هو الذي يعلم بأعدائكم ولستم من تعلمون ذلك؛ لأنهم يظهرون لكم عكس ما يبطنون ويحرّفون لكم الحقائق كما قال تعالى: (واللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ ۚ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا منَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ) النساء: 46.

أي أن من أعدائكم اليهود فيجب عليكم أن تفهموا وأن تعرفوا ذلك وتتعاملوا معهم على هذا الأساس، لأنهم أشد عداوة لكم من الآخرين (لتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ۖ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ۚ ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ) المائدة:82 

ومن صفات أعدائكم أنهم لا يحبونكم على الاطلاق< حتى مع حبكم لهم وتوددكم إليهم (ها أَنتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُم) آل عمران:119.

 وكذلك لا يتمنون لكم الخير على الإطلاق حتى إن اظهروا ذلك وأدعوه قولاً (ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ) البقرة:105.

كل تلك الشواهد القرآنية مضافاً إليها الأحداث التاريخية من وقت ظهور الإسلام إلى الآن ـ قد كشفت عداوتهم وبغضهم لكم وكذلك الأحداث المعاصرة التي تُثبت يوماً بعد آخر أنهم العدو التاريخي للمؤمنين، ومع ذلك نسينا كما نسي آدم؛ لكن الفرق أن "آدم لم يمر بدروس، لكن نحن من بعد قرون أحداث كثيرة تبرهن وتعرف من خلالها من هو العدو ومن هو الصديق إذا كنت ممن يفهم الأحداث، ويفهم نتائج الأحداث وغايات الأمور، نسينا أنهم أعداء، أنهم حاسدون، أنهم ما يودون لنا أي خير، أن قلوبهم مليئة بالحقد علينا، أنهم حريصون على إذلالنا، "(15) . 

واذا كان النسيان من طبيعة البشرية ومقترن بها منذ بدء الخليقة ومنه سُميّ الإنسان كذلك ـ لأنه ينسى كما ورد عن ابن عباس ـ تصديقاً لقوله تعالى: ( ولَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا) طه: 115. فمن واجب المؤمن أن يُذكر الآخرين علّ الذكرى تنفع المؤمنين. 

العدو في الوقت الراهن:

يحذر الحوثي في معظم خطاباته من العدو اليهودي ـ المدعوم أمريكياً ـ الذي يحتل ثالث الحرمين ويعمل جاهداً ليلاً ونهاراً على محاربة الهوية الإسلامية من خلال محاربتهم لثوابت الأمة ومحاولة تشويهها والانتقاص منها متى ما سنحت لهم الفرصة، لأنهم يعرفون دورها في الحفاظ على هوية المسلمين التي تمنحهم القوة والوحدة، من أجل ذلك "تجدهم لأنهم يفهمون أكثر مما نفهم! حربهم تتركز على شيء واحد بشكل مكثف، ومركز ضد القرآن الكريم، وبعده شخصية الرسول (صلوات الله عليه وعلى آله)، وفي نفس الوقت اللغة العربية. هذه الثلاثة الأشياء التي يركزون على حربها: القرآن الكريم رقم واحد في الموضوع" (16) . 

ويُركز العدو على محاربة القرآن في نفوس المسلمين وفي واقعهم بشكل أساسي ورئيسي، لمعرفته بأنه المصدر الرئيس لقوة المسلمين وهو حبل الله الذي يوحدهم في كل زمان ومكان، وهو كذلك من يُعرّفهم بعدوهم ويفضح ضعفه وهشاشته وهو يشكل مصدراً هاماً لمحاربة العدو والانتصار عليه وهذا عين ما يخشاه العدو، باختصار القرآن: "يمنح الإنسان ثوابت، تعتبر مقاييس ثابتة، يربيه على أن تكون لديه رؤية تمنحه المبادرة في المواقف، فهو لا يجعلك بالشكل الذي تنتظر ماذا سيعمل بك العدو لتفكر بعد ماذا تصنع، هو من يربيك على أن تعرف كيف تضرب العدو من البداية، وهو من قدم لك من البداية الشرح الطويل والإيجاز لتعرف كيف يكون عدوك، وكيف واقعه، مثل آية: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ} أليس هذا تقرير إلهي عن الأعداء" (17) . 

لقد أدرك العدو ـ الذي فضحه القرآن  أهمية القرآن في حياة المسلمين باعتباره سلاح المسلمين الحقيقي لمواجهة العدو الذي يستطيعون به هزيمة عدوهم، كما حدث في الماضي ـ وبدونه لا يستطيعون مواجهة العدو مطلقاً، وهذا ما أدركه الحوثي وعمل على بعثه في الواقع وكان سبباً في كل الحروب التي تعرض لها سابقاً ـ ويتعرض لها انصاره في الوقت الراهن ـ فقد أدرك الحوثي أنه " لن يحمينا من أعدائنا إلا العودة إلى القرآن الكريم، لن يبقي العلاقة قائمة بيننا وبين ديننا إلا القرآن الكريم، لا يمكن أن يدفع عنا أيضاً إلا القرآن الكريم إذا ما عدنا إليه" (18) .

ولكن عندما تناسى المسلمون أعدائهم، فقدوا هويتهم، من هم في الحياة وماذا يُريدون منها، وسلموا زمام أمورهم للعدو وأصبح العدو هو النموذج الذي يُحتذى ويُقلد من الجميع، وثقافته هي الثقافة السائدة وهذا هو سبب الشقاء الذي وقع فيه العرب الآن " أصبحنا نتثقف بثقافتهم، أصبحنا نحرص على أن نقلدهم في كل شيء بدءاً من كبارنا إلى أطفالنا ونسائنا، أصبحنا ننظر إليهم نظرة إكبار وإعظام وإجلال، أصبح الشخص منا يعتز بأنه أصبح شخصاً عصرياً وحضارياً عندما يمثلهم ويقلدهم في شؤون حياته فما الذي حصل؟ شقينا كما شقي آدم ألم يشق العرب؟" (19) .

تلك الحالة من التردي التي أصبح فيه العدو نموذجاً هي مصدر الضلال والشقاء الذي يعيشه العرب والمسلمون الآن والسبب في ذلك هي وسائل الإعلام التي بثت سمومها بفعل العولمة الثقافية التي سادت بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وسيادة نظام القطب الواحد .

عولمة الثقافة وثقافة العولمة:

يرجع البعض ظهور العولمة بشكلها الحالي إلى العام 1989م والذي تفكك فيه الاتحاد السوفيتي وانهارت معه المنظومة الاشتراكية، بعد ذلك ظهر كتاب فوكوياما (فيلسوف أمريكي من أصل ياباني) بعنوان: (نهاية التاريخ والإنسان الأخير) عام 1990م يقول فيه إن تاريخ العالم وتاريخ الحضارة الإنسانية قد انتهى بسيادة النظام الرأسمالي الأمريكي وأن نموذج الكاوبوي (رعاة البقر) الرجل الأمريكي هو الإنسان الأخير الذي أصبح نموذجاً في كل شيء، وبفعل تقدم وسائل المواصلات والاتصالات التي حولت العالم إلى قرية صغيرة أسقطت الحواجز والحدود بين الدول، حينها ظهر مفهوم العولمة وتعني باختصار:  سيادة مفهوم الثقافة الواحدة المقصود بها الثقافة الأمريكية ـ أو توحيد العالم تحت هيمنة ثقافية واحدة من خلال إنهاء أسطورة التعدد الثقافي لصالح بروز عالم أحادي الثقافة، وهذا ما أثار ردود فعل عنيفة لدى الشعوب ومنها الشعوب الغربية وخصوصاً الشعب الفرنسي والألماني، المهددة في عُقر دارها في ثقافتها وهويتها الوطنية، ذلك أن الثقافة المعولمة تسعى إلى اقصاء الخصوصيات والهويات الثقافية الأخرى إلى الحد الذي لا يُسمح فيه لأي مجتمع أن يكون له ثقافة ذاتية أو هوية شخصية .

وتعني الهيمنة الثقافية لظاهرة العولمة: هيمنة النموذج الأمريكي على ثقافات الأمم المختلفة من خلال استهداف الثقافات المحلية والإقليمية بالزوال وهي تستهدف اللغة والدين والأخلاق والتاريخ ـ باعتبارها تشكل ثوابت الأمة، وعلى سبيل المثال: ظهر كتاب المفكر الأمريكي صموئيل هنتنجتون عام 1993م بعنوان: (صراع الحضارات) ويقول فيه باختصار: أن الصراع سوف ينحصر في المستقبل بين الحضارة الغربية الرأسمالية العلمانية من جهة وبين الحضارة الإسلامية بشكل رئيسي وبين الحضارة الكونفوشيوسية الصينية من جهة أخرى، وهذا ما أدى لظهور مصطلح "الإسلام فوبيا" الخوف من الإسلام الذي برر ظهور الحرب ضد الدين الإسلامي والقضاء على الحضارة، بكل ما تعنيه لأي شعب من هوية وخصوصية، كالحرب التي قادتها أمريكا على العراق ـ الأولى عام 1991م أو ما عُرف حينها بتحرير الكويت وقد شبهها الرئيس بوش الأب بالحروب الصليبية ـ بعد ذلك قامت أمريكا بغزو افغانستان نهاية عام 2001م ـ بحجة محاربة القاعدة والقضاء على بن لادن، وبغزو العراق عام 2003م ونهبت ثرواته ومعالم تاريخه وحضارته وعملت على تحطيم المؤسسات الدينية للمجتمع واستبدالها بمؤسسات أخرى، من أجل القضاء على التراث التاريخي والحضاري للشعب العراقي وضرب هوية المجتمع في الصميم  أو الروح سعياً منها في نشر الثقافة الأمريكية الاستهلاكية المادية التي تُهيمن على الأفراد والمجتمعات

ثقافة العولمة وطمس الهوية:

لقد كشفت تلك الأحداث كما قال الحوثي أن أمريكا هي التي تحارب الهوية الإسلامية وهي من تدعم اليهود في اسرائيل واسرائيل هي العدو التاريخي للعرب، وبالتالي تكون أمريكا هي العدو الحقيقي، هذه حقيقية واضحة جداً ترقى لدرجة البداهة؛ لكن نسيان العرب لعدوهم جعلهم يعيشون حالة التيه والضلال وفقدان الهوية بسبب ابتعادهم عن الهدي القرآني وجعلت العرب لا يدركون أن "أمريكا وراء إسرائيل، وإسرائيل هي عدوهم، أليست الأشياء متجلية بشكل واضح جداً، لكن الناس أصبحوا في تيه وفي ضلال لدرجة أنهم لا يعرفون ماذا يعني العدو، ماذا تعني العداوة، وكيف أتعامل معها" (20) . 

ومكمن الخطورة كما يرى الحوثي أن وسائل الإعلام المنتشرة بشكل كبير استطاعت تغيير ثقافات الناس وطمس هوياتهم التي تجعل من عداوة اليهود والنصارى جزءاً أصيلاً من الهوية الإسلامية واستبدالها بهويات قابلة للتطويع والتطبيع مع العدو والعمل على خلق عداوات وولاءات تستند للمعايير السياسية التي تستند إلى المصلحة ـ وتبتعد عن معايير الثقافة القرآنية، هذا ما يتم تكريسه عبر المناهج الدراسية وعبر وسائل الثقافة والإعلام، إن "الخطورة في المسألة في الزمن هذا انتشرت الوسائل الكثيرة التي تقدر على تحويل الناس، وكلها تتركز، كل وسائل الإعلام، كل الأشياء هذه تتركز إلى خلق ولاء وعداء يكون خلاصتها حتى عندما يحاولون أن يكون المنهج الدراسي على نحو معين، ونشاط وزارة الثقافة على نحو معين، والتلفزيون والإذاعة نشاطها على نحو معين كله يصب في هذه النقطة: هو لتهيئة النفوس بالشكل الذي يمكن أن تكون معه تتولى هذا الخط وتعادي هذا الخط، تتولى هذه الفئة وتعادي هذه الفئة. هذا كل ما تدور حوله هذه الوسائل الإعلامية والتربوية، والتثقيفية، ومن أجل هذه النقطة تبذل ملايين الدولارات من أجل خلق ولاءات وعداوات"(21) . 

وهذا ما يسعى اليه العدو الأمريكي من خلال وسائل الإعلام المختلفة ـ المقروءة والمسموعة والمرئية التي يُسيطر عليها ـ إلى مسخ الهوية الإسلامية المستندة إلى ثقافة القرآن واستبدالها بثقافة العولمة التي تروج زوراً للديمقراطية وحقوق الإنسان كي يسهل عليهم بعد ذلك التغلغل وراء تلك الشعارات البراقة لتشكيك العرب والمسلمين بمبادئهم وثوابتهم، بعد ذلك يصبحون مهيئين نفسياً للهزيمة وتلقي الضربات دون مقاومة تذكر، و لذلك "يسعون أولاً إلى نشر الفساد الأخلاقي، الفساد الثقافي، نشر ما يخلق فرقة في أوساط الناس، ما يبعدهم عن دينهم، ما يشككهم في مبادئه، ما يشككهم في كتابه، في نبيه، هكذا، هكذا حتى يهيئونا لأن يضربونا بسهولة، ومتى ما ضربونا نكون قابلين لأن نهزم، قابلين لأن نهزم أمامهم؛ لهذا تجد أن الإسلام هو الدين الوحيد في هذه المعمورة الذي يحاربه الأعداء من اليهود والنصارى"(22)

وتعمل وسائل الإعلام المعادية على قصف العقول وضرب الوعي تارة من خلال عرضها لمشاهد الأسلحة المتطورة والصواريخ شديدة التدمير، التي يضربون بها المسلمين في أفغانستان والعراق ـ من البر والبحر والجو، والتي لا يقف في وجهها أحد وتعمل وسائل الاعلام ـ وكذلك الأفلام الأمريكية على إظهار الجندي الأمريكي وهو يغزو البلدان ويحتل الدول دون أن يهزم ودون أن يقف في وجهه أحد والغرض من كل ذلك هو بث الرعب وخلق الهزيمة النفسية التي يستحيل معها أن يفكر الآخرون في حربهم أو الوقوف ضد مشاريعهم التوسعية الاستعمارية، أدرك الحوثي حقيقة تلك الدعايات والمؤامرات وعمل على فضحها والوقوف ضدها واعتبر أن القبول بالهزيمة النفسية هو عدم اتخاذ موقف ضدها هو نوع من الوقوف من الأعداء، وكما قال: "هذه الحقيقة التي يجب أن نعرفها وأن نقولها لأولئك، وأن نرفض الحقيقة التي يريدون أن يرسخوها في أنفسنا هم من حيث يشعرون أو لا يشعرون، حقيقة الهزيمة، حقيقة (الهزيمة النفسية)، لا نسمح لأنفسنا، لا نسمح لأنفسنا أن نشاهد دائماً تلك الأحداث وتلك المؤامرات الرهيبة جداً جداً، ثم لا نسمح لأنفسنا أن يكون لها موقف، سنكون من يشارك في دعم اليهود والنصارى عندما نرسخ الهزيمة في أنفسنا، عندما نَجْبُن عن أي كلمة أمامهم " (23) ..

وعندما تفشل وسائل إعلام العدو من بث روح الهزيمة النفسية لدى المسلمين، تحاول التركيز على الترويج لعملية السلام بين العرب واسرائيل والعمل على التطبيع الثقافي الذي يعمل على دفن ثقافة العداوة القرآنية ـ التي تجعل المسلم مستعداً وجاهزاً لبذل النفس والمال ـ بعدها من السهل عليهم أن يحتلوا البلاد الاسلامية دون مقاومة تذكر، لأن وسائل الاعلام خدرت الشعوب وهيأتها للسلام ـ أو الاستسلام ليس هناك فرق ـ وكما قال الحوثي: "هم عندما يحاولون أن يمسحوا اسم "عداوة" يحاولون أن يقدموا كلمة سلام، وعالم مسالم، وأشياء من هذه إنما ليجمدوا نفسياتنا، يموتوا كل مشاعر العداوة التي ركز القرآن على خلقها بالنسبة لهم؛ لأن هذه حالة نفسية مهمة؛ لأنه إذا برزت نفسيتك لا تحمل عداوة لن تبذل نفسك، لن تبذل مالك، لن تعد أي عدة، معنى، اطرح بندقك هنا، أو تبيع بندقك لم يعد هناك حاجة، وهم شغالين وفي الأخير ما تدري وقد أنت هناك أسفل، وهم هناك فوق، أنت مجرد من كل إمكانياتك وأسلحتك، لم تعدّ شيئاً! وهم يظهرون لك في وقت معين أعداء شرسين في وقت لن تتمكن أن تعمل شيء " (24) .

من كل ما سبق يؤكد الحوثي أن وسائل الإعلام العدو وتخاذل الكثير من الأنظمة العربية وبعض الشعوب استطاعت تمسخ الهوية وسببت الضلال الذي عمّ حياة المسلمين، فقدوا هويتهم ولم يتعرفوا عليها، من نحن؟ ولم يعرفوا أعدائهم وضاع القرآن في نفوسهم ومن واقع حياتهم، فأصبحوا صفراً على يسار الواقع لا قيمة لهم ولا خير يرتجى منهم وهذا هو قمة اليأس والاحباط " فأصبحت المسألة من الضلال إلى درجة أننا لم نعرف من نحن، ولم نعرف أعداءنا، ولم نعرف طريق جنته، ولم نعرف كيف كان عليه أنبياؤنا، ولم نعرف كتابنا، ولم نعرف شيئاً، أصبحنا صفر، لا نعرف شيئاً " (25) .

لكل ما تقدم يؤكد السيد حسين ويكرر في كل خطاباته ـ تقريباً ـ على أن العدو التاريخي للعرب والمسلمين، هو العدو اليهودي الذي فضحه الله في القرآن ـ سواء في الماضي أو الحاضر والمستقبل أيضاً ـ وكأني به يستشرف ما سوف يحدث في المستقبل من تحريف للكلم وتحويل للعدو ـ خصوصا في عام 2005م عندما ظهر مصطلح الشرق الأوسط الجديد في وسائل الاعلام على لسان وزيرة خارجية أمريكا ـ كونداليزا رايس ـ وبشر به أيضاً الرئيس الإسرائيلي شيمون بيرز من خلال كتابه الذي يحمل نفس العنوان، وسوف يتم ذلك من خلال الفوضى الخلاقة الذي حاولت تقسيم العالم العربي على أساس طائفي ومذهبي وقد كشفت الأحداث التي وقعت بعد استشهاد الحوثي، في 10سبتمبر 2004م صدق ما ذهب إليه خصوصاً بعد أن عملت وسائل إعلام العدو وبالتعاون والتنسيق مع وسائل إعلام دول النفط حرف بوصلة العدو من اسرائيل إلى أيران وحزب الله.

 من أجل ذلك كرر الحوثي في كل خطاب وفي كل مرحلة تمر بها الأمة التذكير بالعدو وغرس فكرة عداوة اليهود من جديد في النفوس وتأكيد تلك الفكرة في العقول وترسيخها في الواقع.

من خلال الآيات القرآنية التي جعلت من الحج موسماً للتذكير بعداوتهم للمسلمين وكما قال: "ولأن الحج مهم في مجال مواجهة اليهود والنصارى، جاءت الآيات القرآنية في الحديث عن الحج متوسطة لآيات الحديث عن اليهود والنصارى في كل من سورة [البقرة] وسورة [آل عمران] و[النساء]، ثلاث سور أذكرها من السور الطوال أتى الحديث عن الحج ضمن الحديث عن بني إسرائيل.. كما جاء الحديث عن ولاية الإمام علي ضمن الحديث عن بني إسرائيل، كما جاء الحديث عن الوحدة والاعتصام بحبل الله جميعاً ضمن الحديث عن بني إسرائيل؛ لأن بني إسرائيل هم المشكلة الكبرى في هذا العالم ضد هذه الأمة وضد هذا الدين، هم العدو التاريخي للمسلمين من ذلك اليوم إلى آخر أيام الدنيا. هم العدو التاريخي بنو إسرائيل " (26) . 

يصل الحوثي إلى نتيجة فحواها أن معرفة العدو من خلال الثقافة القرآنية هو الذي يحقق المصلحة للشعوب الإسلامية، لأنهم من خلال تلك المعرفة يعتمدون على أنفسهم ويضلون في حالة استعداد دائم وذلك يكسبهم القوة وكما قال: "المصلحة للشعوب الإسلامية هو التوجه القرآني في النظرة نحو هؤلاء اليهود والنصارى، نظرة العداء، نظرة إعداد القوة، نظرة الجهاد، نظرة الشعور بأنهم يسعون في الأرض فساداً، وأنهم لا يريدون لنا أي خير، وأنهم يودون أن نكون كفاراً، يودون لو يضلونا، يودون لو يسحقونا وينهونا من على الأرض بكلها" (27) . 

كل ما سبق عرضه يعني: أن الذات السوية ـ التي تعرف ذاتها وهويتها، اذا أرادت أن تكون كذلك ـ عليها أن تعرف من هي وماذا تُريد من خلال معرفة العدو الذي يقف حجر عثرة أمام الهوية التي تميزها عن غيرها وامام كل مشروع فكري يبتغي النهوض والتقدم، وهذا يعني ان تُعيد الذات بناء ذاتها من جديد وترميم ما يمكنها ترميمه من الداخل .

بناء الذات من جديد:

لقد أدرك الحوثي أن العدو التاريخي استطاع الوصول إلى أعماق المسلمين ونفسياتهم وقد تسرّب إليهم من خلال قشرة الحضارة الزائفة والمدنيّة الملوثة، بالتبعية الفكرية والاقتصادية التي زاد تسربها من خلال العولمة الثقافية وثورة الاتصالات التي حدثت في بدايات الألفية الثالثة، وخصوصاً وسائل الاعلام ووسائل التواصل الاجتماعي التي جعلت من العالم قرية صغيرة وعملت على إزالة جميع الحواجز، ومن خلال تلك الوسائل ترسخت العولمة التي رسمت الصورة النمطية عن التفوق الاقتصادي والعسكري والسياسي للعدو الأمريكي والإسرائيلي وعن القوة التي لا تقهر ولا تُهزم، كل ذلك ولد الهزيمة النفسية لدى ضعاف الايمان وأصبحنا نسمع الكثير من الناس يرددون العبارات الانهزامية "ماذا سنعمل نحن بإسرائيل وأمريكا، عندها قوة جبارة عندها وعندها ونحن ماذا سنعمل ضدهم " (28) . 

 ووجدت تلك الأفكار الانهزامية المتخاذلة طريقها إلى نفوس المسلمين، خصوصاً تلك التي تقلل من شأن الجهاد وتجعله إرهاباً، وتسخر من الدعوة إلى الوحدة والاعتصام بحبل الله وتجعل منها معجزة تدخل في دائرة المستحيل، وتلك بالنسبة للحوثي "قضية مهمة يجب أن نعرفها لأننا أصبحنا الآن في واقعنا ننظر إلى كثير من تشريعات الإسلام ونعدها في قائمة المستحيلات، منها توحد الكلمة، منها الجهاد في سبيل الله، منها العمل على إعلاء كلمة الله، منها العمل على إقامة دولة الإسلام، كل هذه في قائمة المستحيلات " (29) . 

وبالتالي حاول الحوثي العمل على اعادة بناء الذات وترميمها من الداخل، لإدراكه أن حياة الإنسان هي انعكاس لأفكاره، فالأفكار تخرج على شكل كلمات وتتحول بعدها إلى أفعال، والأفعال تصبح مع مرور الوقت عادات والعادات في الأخير تترجم إلى مبادئ تتحكم في مصير الإنسان وتحكمه أيضاً، أي أن الأفكار تصبح واقعاً معاشاً ، وأول خطورة في طريق بناء الذات هي التقييم الذاتي لنقاط الضعف والقوة، التي يمتلكها الفرد والمجتمع، تليها مباشرة رغبة جادة وصادقة في التغيير النفسي الداخلي للأفكار، وكما هو معلوم أن كل فكرة جديدة تنطوي على قدر كبير من المغامرة والمخاطرة في نفس الوقت ومع ذلك لن يُحقق الفرد ـ والمجتمع  أي تغيير ملموس دون أن تكون لديه رغبة في تجريب شيء جديد حتى على مستوى الأفكار، وبالتالي على الفرد والمجتمع أن يتخذوا القرار بالتغيير من الداخل، فقوة القرار في الداخل تكافئ القدرة على التغيير في الخارج، لأن ما يُحدد حياة الأفراد والشعوب هي قراراتها القوية وليست ظروف حياتها، يأتي بعدها مباشرة الاتجاه إلى الواقع والنظر اليه من خلال أفكار جديدة تؤمن بالتغيير فكراً كي تراه واقعاً ملموساً .

وقد أدرك الحوثي أن اللبنة الأولى في صرح بناء الذات وإعادة ترميمها تبدأ من الداخل من الأفكار، من تغيير الحالة النفسية الانهزامية التي عملت على قتل الثقة بالنفس وهو دائما ما يركز على التهيئة النفسية في معظم خطاباته، لمعرفته أن "الحالة النفسية لدى الإنسان هي النقطة الأساسية بالنسبة للتغيير نحو الأفضل، أو التحول نحو الأسوأ كما قال الله: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ}(الرعد11) معظم ما يتوجه التغيير إلى النفس، عندما تحاول أن تكره نفسك على شيء، عندما تحاول أن تحصل على وعي، على فهم، من أجل أن ترسم توجهك، التوجه في الموقف توجه النفس، توجه القلب، " (30).

وقد يتساءل البعض ماذا يقصد الله سبحانه وتعالى بقوله {حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} وكيف لهم أن يفعلوا ذلك؟ والمقصود من ذلك أن كل ما بداخل النفس هي عبارة عن "أفكار وحالات ومواقف هي نفسها التي نحملّها معاً في حزمة واحدة ونشير إليها بكلمة النفس، ونفوس الناس، بهذا المعنى هي التي لا يُغّير الله ما بنا اليوم حتى نُغّير نحن أولاً ما بها " (31) . 

إذاً البداية لتغيير الخارج الكوني تبدأ من الداخل الإنساني وهذه سنّة إلهية وقانون سسيولوجي يسري على كل المجتمعات، في كل زمان ومكان؛ لأن المجتمع يعيش كما يُفكر وأفكار اليوم هي البذور التي سنجني ثمارها غداً، فيجب على الناس أن يفهموا ذلك "فإذا فهم الناس أنها سنة إلهية {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ}(الرعد11) أن التغيير يأتي من عندنا نحن، متى ما أصلحنا أنفسنا، متى ما فهمنا، متى ما وعينا، متى ما عرفنا الأمور كيف يمكن أن تكون صالحة، أو فاسدة، أو تؤدي إلى صلاح، أو تؤدي إلى فساد، كيف يمكن أن تكون عواقبها؟ متى أصبحنا على هذا النحو، لدينا وعي، فانطلقنا نغير من واقعنا، نغير من واقع أنفسنا، فسيستطيع الناس أن يغيروا هم " (32) . 

تلك السنّة الإلهية تشبه القانون الرياضي الذي يقول بأن المقدمات الصحيحة تؤدي إلى نتائج صحيحة ـ والعكس صحيح ـ فعندما يبدأ الناس بتغير أفكارهم ـ كمقدمة ـ وينطلقوا بعدها ليغيروا واقعهم " فإن الله سبحانه وتعالى سيؤيدهم ولذلك قال: {لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} فيحصل التغيير مشترك، من جانب الناس، بعدما يصلوا بأنفسهم إلى الدرجة التي تكون قابلة أن يغيروا نحو الأفضل، فالله سبحانه وتعالى حينئذ يتدخل في المسألة، ويغير معهم إلى الأفضل " (33) . 

 وتلك هي النتيجة المنطقية الصحيحة التي تؤكد صحة السُنن الإلهية في التغيير، أما المجتمع الذي ينتظر أن يأتي التغيير المنشود قد من الخارج فلن يصل إليه حتى يلج الجمل في سمّ الخياط كما قال تعالى، وهذا هو حال الذين ينتظرون "المتغيرات العالمية لتأتي وتغير لهم وتجلب لهم التغيرات التي يحلمون بها، عليهم أن يخرجوا من أحلامهم وأوهامهم، فالله سبحانه هو صاحب الإرادة العليا في هذا الوجود، حتى الله سبحانه (لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ) كما يأخذ وعداً على نفسه في محكم التنزيل، فكيف ننتظر من المتغيرات العالمية أن تأتي لنجدتنا ؟ ... إن العوامل والقدرات الذاتية للأمة هي وحدها الفيصل الحاسم في أي تغيير وتطوير وتحسين " (34) .

لقد عمل الحوثي على بناء الذات ـ الفردية والجماعية ـ واعادة ترميمها وتأهيلها من خلال إعادة ثقة الذات بذاتها وكسرّ الحاجز النفسي الذي شكّل مستحيلاً بالنسبة لها، فالمستحيل لا وجود له إلا داخل النفوس المريضة التي لا تثق بذاتها وبإمكانيتها والأهم من ذلك الثقة الكاملة بالله سبحانه وتعالى، وجعل القرآن حياً في النفوس ومعاشاً كسلوك في الواقع وعندما يتحرك الإنسان المسلم على هذا الأساس سوف يستطيع أن يجعل من المستحيل ممكناً "وسيحصل كل شيء مما تراه مستحيلاً سيحصل، المستحيل هو في نفسك أنت وليس في واقع الحياة، وليس فيما هدى الله إليه، أنت في نفسك التي لا تثق بالله، في نفسك العاجزة، في نفسك المهزومة، في نفسك الضالة التي لا تعرف كيف تعمل، هناك المستحيل، أما فيما يهدي الله إليه، أما في واقع الحياة، أما في السنن الإلهية، أما في السنن الكونية فليس هناك شيء مستحيل، إذا ما سرت على ما هداك الله إليه فسيصبح ما بدا أمامك مستحيلاً يصبح يسيراً وسهلاً " (35) . 

 إن الإصلاح المنشود في الخارج يبدأ من الداخل، وبدون أن نبدأ من الذات لن نصل إلى إصلاح الواقع، فمسألة الإصلاح والتغيير مشروطة ومتسلسلة "والشرط المشروط علينا في الآية الكريمة هو أن نغيّر ما بأنفسنا، مطلوب منا أن نغيّر الداخل ليتغير الخارج. مطلوب منا أن نُعيد النظر في ترتيب جهازنا النفسي من باطن، فتتبدل دنيانا، ليرتد ضعفنا قوة وذلتنا عزّة وتخلفنا ريادة " (36) .

ولن يتأتى التغيير المنشود في حياة الأفراد والشعوب دون أن يبلغ إيمانهم بالله سبحانه وتعالى ذروته ويصل حد الاكتمال، حينها سوف تكتسب الذات الإيمان بذاتها وبقدرتها على المواجهة. والتاريخ يحكي لنا أن قوة الإيمان والثقة بالله هي السلاح الذي استطاع أن يهزم به المؤمنون الأوائل - وهم قلّة - امبراطوريتي فارس والروم برغم فارق الامكانيات الحضارية والقوة العسكرية والتجهيز الحربي، وهكذا يصل الحوثي إلى نتيجة فحواها: " أن من يستطيعوا أن يغيروا في واقع الحياة هم العدد القليل جداً من المؤمنين أولئك الذين يسعون لأن يبلغ ايمانهم أكمل الإيمان ويدعون الله أن يبلغ بإيمانهم اكمل الإيمان" ( 37) . 

هذا يعني أن الايمان الحقيقي بالله هو الذي يُهيئ النفوس للإيمان بذاتها وبقدرتها على أحداث التغيير المنشود متى ما تيقنت من ذلك وكما قال القديس أوغسطين: أن الايمان (أن تؤمن بما لم تره بعد ومكافاة هذا الإيمان هو أن ترى ما تؤمن به) .

والإيمان المكتمل هو الإيمان الحقيقي، العملي وكل ما عداه ليس ايماناً حقيقياً، تلك هي وظيفة الإيمان والعقائد الإسلامية "أن الإيمان، أن العقائد في الإسلام العظيم كلها عملية، إيمان يترك تأثيراً على النفس، ثم نفس تترك تأثيراً في واقع الحياة، ما عدا ذلك يعتبر إيماناً أجوفاً، لا يقدم ولا يؤخر، ولا ينفع لا في الدنيا ولا في الآخرة، وأول المؤمنين بهذا الإيمان هو الرسول محمد (صلوات الله عليه وعلى آله) " ( 38) . 

والنتيجة التي نصل اليها: أن السيد حسين الحوثي استطاع من خلال مشروعه الفكري القرآني أن يُعيد بناء الذوات المثقوبة التي تسرب اليها اليأس من خلال أعادة الثقة لها وزرع بذور الأمل الذي كسر المستحيل النفسي الذي ران على عقول وأفكار الامة حيناً من الدهر، فالتغيير هو عبارة عن فكرة تبدأ في الداخل النفسي للإنسان وسرعان ما تتسرب إلى الواقع فتحدث التغيير المطلوب الذي كان مستحيلاً في السابق

 و*ورقة عمل مقدمة للندوة التي أقامها المجلس السياسي لأنصار الله بمناسبة الذكرى السنوية للشهيد القائد للعام 1438هـ بعنوان: "الشهيد القائد مسيرة إصلاح وتجديد " الشهيد ال

 

 

 

الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر المركز

مواضيع متعلقة