Logo dark


المشهد الجنوبي اليوم

( دكتور فلسفة - جامعة عدن , )

مقدمة/

إن قراءة المشهد السياسي في الجنوب اليمني المحتل، لا بل على امتداد الساحة اليمنية غاية في التعقيد، لأنه يشهد تقلبات وتغيرات متسارعة، كما يستعصي تقديم قراءة واقعية في ظل أوضاع حرب وصراع الإرادات، وتكون فيه هذه الإرادات مستنفرة ومتقلبة، إلاّ أن هذه القراءة ستحاول أن تكون تقريبية واحتمالية، وتستند على قاعدة الأحكام الاحتمالية وتحاول أن تعرض السيناريوهات المتعددة لمختلف الأجندات والمسارات.

في الحقيقة مشهد الجنوب السياسي يكتنفه تقلبات في المواقف نتيجة هندسة القوى التي تتصدر المشهد السياسي بالمال السياسي، ولا نستطيع إعتبار القوى فيه إلاّ قوى تابعة وأدوات تنفذ أجندات مختلف الممولين، وإن كان بعض عناصر هذه القوى تم اختيارها من بين ضحايا نظام حكم تداعت شرعيته وانهار في 21 سبتمبر 2014 ، النظام الذي أجريت له محاولات شد وتجميل عديدة، لكن أثبتت الوقائع أنها محاولات باءت بالفشل.

إن الناس في الجنوب يرزحون تحت تضليل، وهذا التضليل جرى إنتاجه على نار هادئة منذ استحوذت قوى الفساد عليه بعد حرب 1994، أولاً تحت وطأة شعور الناس فيه بالهزيمة وبفعل سلوك النظام تحت نشوة النصر، أخذ هذا الشعور يتعزز أكثر فأكثر، واتخذ نظام 7/7 سياسات الحاقية تجاه الجنوب لم يراع خصوصياته الثقافية.

ولذلك فإن ما نشهده من حالة التمزق والتشوه الحاصل جاء نتاج، وأعتقد أن الجنوب بحاجة لأن يتم التعامل معه كما يتعامل الطبيب مع مريضه.

أولاً/ حكومة بن دغر

بنية الحكومة:

تكونت الحكومة من خليط من التوجهات وإن كانت عصبها الأساسي حزبي الإصلاح والمؤتمر وهناك تمثيل شكلي للحزبين الاشتراكي والناصري وجرى تطعيمها أيضاً بعناصر كانت محسوبة على الحراك الجنوبي، لكن في اعتقادي جرى استمالتهم كأفراد ليس إلاّ.

والملاحظ في هذه التوليفة أنها توليفة تجمع بين عناصر كانت جزءاً من نظام علي صالح قفزت من سفينته بعد أن كادت تغرق في مراحل مختلفة بعضهم قُفِّز منها بعد فبراير 2011 والبعض الأخر أثناء الحرب العدوانية، وهذا القفز يتم بإيعاز من نفس النظام الأوليجارشي ويهدف من ذلك توفير طوق نجاة لبقاء النظام وديمومته.

وفي الاتجاه المقابل هناك عناصر شاركت نظامه وافترقت معه أثناء ما سمي بالربيع العربي، ولقد توحدت عناصر الثأر السياسي في نصف النظام المنشق مع قوى أخرى أزيحت من السلطة في مراحل مختلفة، بعضها في بداية تأسيس النظام كـ "الناصريين"، والبعض الآخر في حرب 94 إثر هزيمتهم كـ "الاشتراكيين".

ثانياً/ المجلس الانتقالي

يتكون المجلس الانتقالي من فسيفساء ذات توجهات سياسية مختلفة ومصالح متباينة يوحدهم أمرين.

الأمر الأول إن عناصره على خصومة مع شرعية هادي "شرعية الإصلاح".

أما الأمر الثاني هو ولاءهم للإمارات الراعي الرسمي والداعم المالي.

وهذا المكون يقدم نفسه باعتباره الممثل السياسي للقضية الجنوبية وحامل سياسي يسعى إلى الحصول على الاعتراف بالدولة الجنوبية، ولكنه يفتقر إلى برنامج سياسي، وأعتقد أنه نشأ مرتكناً على وعود شفوية، لقد اجتمع المجلس الانتقالي براعيه وداعمه "الاحتلال الإماراتي" خصومة مشتركة مع حزب الإصلاح، الإمارات تتخذ المجلس الانتقالي عصا غليظة تلوح بها ضد الإصلاح من أجل الإجهاز على توجهاته الإخوانية، وإعادة ترميم النظام القديم المرتبط معها بمصالح جيوسياسية واقتصادية، وهذا الصراع يأخذ شكل الصراع مع قطر وتركيا تحديداً، حيث بدأ الاقتصاد التركي منذ صعود الإخوان إلى الحكم في غير قطر عربي يوسع من نفوذه في السوق العربية، وبدأت الإمارات تشعر بخطر استحواذ كهذا على مستقبل مدينة دبي.

وتأسيساً على ذلك ينبغي الإشارة إلى أن المجلس الانتقالي يتكون من خليط من القوى المتناقضة سرعان ما أن تنفرط وحدتها إذا وضع أمام خيار إقامة الدولة الجنوبية، فإذا كانت تناقضاته كامنة أو مضمرة وتجعلها تبدو بهذا الشكل وجود تناقض رئيسي مع قوى أخرى مهددة له، فإنه لن تلبث أن تظهر تناقضاته الداخلية إلى السطح بمجرد زوال أسباب التناقض الرئيسي. كما يعاني المجلس الانتقالي من مشكلة جوهرية تتعلق بجوهر هوية "دولته المنشودة"، وهناك تباينات بين أطراف مختلفة، البعض يطرح فكرة "الجنوب العربي" وهذا مشروع استعماري بريطاني قديم يجري إحياؤه، وهناك تيار آخر يطرح عودة الدولة اليمنية الجنوبية باسمها قبل 1990م وترك مسألة تغيير هوية الدولة إلى مرحلة لاحقة.

ثالثاً/ المليشيات المسلحة

تتكون المليشيات من خليط غير متجانس من القوى لكن عصبها الرئيسي على النحو التالي:

1- قوام مليشيات المجلس الانتقالي

أ- قوى الحزام الأمني، وتتكون من الجماعات السلفية، سلفية الفيوش وسلفية دماج

ب- قوات الزبيدي - شلال وهي خليط من القوى، لكن عصبها الرئيسي أفراد من الضالع وقيادات عسكرية قديمة تم تسريحها بعد حرب 94م. وهذه المليشيات مدعومة إماراتياً

ج- قوات هادي

قوام قوات هادي يتكون من خليط من بقايا الفرقة وجماعات موالية للإصلاح وجماعات موالية لهادي من أبين وهي قوى مدعومة سعودياً واحتمال كبير مدعومة قطرياً أيضاً.

د- قوات الحرس ( قوات طارق)

قوات تم إنشاؤها بعد فشل انقلاب 2 ديسمبر 2017م، وركيزته بقايا الحرس الجمهوري وخصوصاً الذين شاركوا في انقلاب ديسمبر، وهذه القوى تدين بالولاء لأسرة صالح ومدعومة إماراتياً.

ه- قوات النخبة الشبوانية والنخبة الحضرمية في شبوة وحضرموت.

رابعاً/ تقاطع الأجندات وتناقضها

وبناءً على ما تقدم يبدو جلياً أن تحالف دول العدوان تتصارع في الجنوب، حيث تتقاطع مصالحها في بعض القضايا وتتباعد في قضايا أخرى. وعلى الرغم إنهم يتوحدون على حكومة صنعاء واتفاقهم على عدائهم السافر ضد أنصار الله تحديداً، إلا أنهم يفترقون في أجندات مختلفة، وهذا الصراع ليس وليد اليوم إنما بدأ يظهر جلياً أثناء "ثورة" فبراير2011م حينها بدأ التركيز الجنوب أكثر وبدأت دول الخليج عبر أدواتها الداخلية باختراق الحراك الجنوبي الذي كان موحداً، وبدأنا نشهد تشظي الحراك إلى أكثر من فصيل وكل فصيل يتبع ممول، ولكل ممول أجندته الخاصة.

وعلى إثر هذا التشظي بدأ الحراك كما أسلفنا يتشظى عدة فصائل، إلاّ أنه يصب في ثلاثة اتجاهات رئيسية:

اتجاه يتبع حزب الإصلاح وممول سعودياً وقطرياً ويمثله عبدالله حسن الناخبي.

اتجاه يتبع رأس النظام السابق علي صالح وقوامه بعض أبناء شهداء يناير 86 ويمول من علي صالح ويمثله شلال علي شائع.

واتجاه ثالث يتهم بارتباطه بإيران من حيث التمويل والدعم ويمثله حسن باعوم.

وعليه ينبغي التأكيد أن الصراع على الساحة الجنوبية تفرضه طبيعة الجنوب اليمني الجيواستراتيجية وجغرافيته الحيوية على مختلف القوى الإقليمية والدولية، بما يتمتع به من موانئ وجزر ومدخل باب المندب الاستراتيجي، ولكل طرف في هذه القوى الإقليمية أجندته الخاصة، الإمارات بدأت تستشعر خطر سقوط علي صالح وإلغاء اتفاقية ميناء عدن مع شركة دبي عام 2012م، وكل ما نشهده من اعتمالات منذ أغسطس 2015 الذي جرى فيها تسليم واستلام بين الإمارات وعلي صالح للجنوب بناءً على تفاهمات المصالح التي تكونت بين الطرفين منذ ما بعد حرب 1994م، حيث وضع النظام القديم عدن رهينة مقابل مصالح لصالح وأسرته في دبي ودعم إماراتي له وشرعية نظامه، حتى القوى التي شكلتها الإمارات في عدن أغلبها من تلك القوى التي ارتبطت بالقصر إما سراً أو تلك المرتبطة به علناً .

وكلنا يعلم أن الجنوب شهد صراعاً إصلاحياً تركياً - قطرياً وإماراتياً على عدن بعد إلغاء اتفاقية شركة دبي، وبداية تنامي التبادل التجاري بين اليمن واسطنبول بعد سقوط نظام صالح، كما نتذكر تدشين خطوط الطيران التركي رحلاته الجوية إلى مطار عدن ست رحلات أسبوعياً بعد إقرار برنامج وزارة النقل خطتها للأجواء المفتوحة، هذا الاهتمام بعدن وبهذا الشكل أثار حفيظة الإمارات إلى جانب تحويل إخوان مصر وعدد من الدول العربية بوصلتها صوب إسطنبول، هنا استشعرت الإمارات خطورة ذلك على مدينة دبي، أي أن الصراع يتخذ طابع صراع مصالح بين مدن على سوق الاستهلاك، وهذا الأمر يفسر دعم الإمارات للجيش المصري لإسقاط الإخوان في مصر عام2013م ودعمها للجيش التركي في انقلابه الأخير ودعمها لمعارضي حزب النهضة الإخواني في تونس في الانتخابات الأخيرة.

كان لابد من هذه اللمحة الموجزة كي نعرف خريطة التحالفات في الجنوب الذي يكتنفها تقاطعات وفي نفس الوقت يكتنفها تناقضات مصالح.

المهم في الأمر أن حجم تناقضات القوى في الجنوب يؤشر إلى تحالفات مفخخة تحمل بذور صراع مستقبلي لن يقف عند حد معين، إذ ستشهد الساحة صراع داخل كل مكون إذا ما آلت الأمور إليه، لأنها مكونات مصطنعة ولفيف من القوى المتناقضة، إن بذور الصراع وملامحه دائمة ومستمرة في الجنوب تستمد إشعارها من ماضي الصراع، ومع ذلك لا ينبغي على تحالف صنعاء أن يعول على فشل مشروع الاحتلال في الجنوب بقدر ما ينبغي عليه أن يسعى إلى تحقيق نجاحات في إدارة المعركة على كل المستويات العسكرية والاقتصادية والتركيز على النجاح هو مفتاح خلق الشرعية وإجبار العالم على التعامل معها والاعتراف بها، وهذا لن يكون إلاّ من خلال ممارسة المهام بعقليات رجال الدولة يضبطون إيقاع حياة الناس على مختلف الأصعدة.

أ-التناقضات داخل القوى في الجنوب

لا يمكن تفسير ما يجري في الجنوب اليوم إلاّ ضمن سياق فهم ما حدث لليمن كلها وقادها إلى هذا المآل، ونعتقد أن طبيعة النظام السياسي قبل 21 سبتمبر 2014م لم يك نظام دولة بكل ما تحمله كلمة دولة من معنى سياسي وقانوني، ولقد أطلق عليه المفكر السياسي الأمريكي بوب بروز في محاضرة له في منتدى الجاوي عام 2008م بأنه نظام "كليبتوجراسي" (نظام حكم اللصوص وباللصوص ومن أجلهم)، أي أن الدولة الغائبة هو جذر المسألة وهذه حقيقة يتم تجاهلها أو القفز عليها.

وفي الجنوب يجري إعادة نسخة مصغرة من ذلك النظام، وذلك عبر تجديد شخوصه، نحن أمام تخلّق سلطة فرانكشتاينية "مسخ " حالة كهذه لا يمكن أن تمت للدولة بصلة، الدولة تشترط وجود إرادة مستقلة وتتمتع بسيادة قرارها. بينما يشهد الجنوب هندسة سلطة متعددة القوى تحمل في طياتها بذور صراع مستقبلي، ويهدف الاحتلال الإماراتي من وراء ذلك وضع هذه التناقضات في ثلاجة تبريد، على أن تكون قابلة للتأجيج كلما لاحت إرادة تنحو للاستقلال، وبهذا يظل الجنوب قابل للفوضى المنظمة. والهدف كما قلنا إعاقة ظهور قوى تستطيع توظيف موقع الجنوب والبلد الجيواستراتيجي في تحقيق المصالح الوطنية وإعاقة قيام دولة.

ب - أجندة دول هيمنة سايكس بيكو

( بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية)

الجنوب اليمني وما شهده من أحداث العام الفارط وما قبله يفصح عن صراع أجندات مختلفة وهذا الصراع يفرضه صراع هيمنة بين قوى الهيمنة العالمية، إذ يعيش العالم مخاضات تشكل نظام عالمي جديد تعددي الأقطاب، قوى الهيمنة التي فرضت اتفاقية سايكس بيكو قبل قرن وتحاصصت المصالح في المنطقة وأنشأت معظم دول المنطقة كدول وظيفية تحاول أن توسع مصالحها وإعادة رسم خريطة العالم الجيوسياسية بالحرب والاحتلال، كي تفرض إتفاق أمر واقع، وهذا نلاحظه من خلال استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وسعيها من خلال هذه الحرب إلى استعادة إرثها الاستعماري السابق في جنوب اليمن ولكن عبر استعمار بالوكالة، وهذا لا يعني أن ما يجري من تقسيم سيكون على طريقة محاصصة سايكس بيكو السابق، بل تسعى قوى الهيمنة بريطانيا وأمريكا وفرنسا إلى الاستحواذ على منطقة بحر العرب والبحر الأحمر وفي حالة صراع مع الصين التي أخذت تهتم بأفريقيا وتؤسس لها قاعدة عسكرية في جيبوتي وبدأت تستثمر في البنية التحتية لجيبوتي من العام 2010 بمبلغ 14.4 مليار دولار وعينها على الأسواق الأفريقية.

ج - الأجندات الملحقة تابعة (السعودية-الإمارات)

وفرت اتفاقية الحدود عام 2000م سوقاً للبضائع السعودية في السوق اليمنية أخذ يتنامى على حساب الاقتصاد الوطني وهذا التنامي قاد إلى تبعية اقتصادية وربط حاجة البلد الاقتصادية بالاقتصاد السعودي.

وهذا الأمر ينطبق على الإمارات تنامى الاعتماد على جبل علي، وذهب رأس النظام السابق علي صالح إلى استغلال خشية الإمارات من ميناء عدن واستفاد من التلويح بالمنطقة الحرة في عدن التي ظلت حبراً على ورق منذ تحقيق الوحدة اليمنية، لقد وظف الموقع الجيواستراتيجي لميناء عدن في سبيل تحقيق منافع شخصية عائلية وحقق مصالح وحصل على دعم إماراتي مالي بمقابل تعطيل ميناء عدن وجعله رهينة التعطيل. وأرسى اتفاقية تشغيله عام 2008م لمدة 100عام عبر مناقصة شابها فساد واضح، ولكن هذه الاتفاقية ألغيت بعد خلع صالح من قبل وزير النقل الذي وصفها بأنها اتفاقية "مجحفة في حق اليمن" وأنها أبرمت في ظروف راعت المصالح السياسية أكثر من الاقتصادية".

وتنكر الإمارات تهمة رغبتها السيطرة على موانئ اليمن وعدن تحديداً، وأن ذلك سبب دخولها هذه الحرب العدوانية ". لكن هناك دلائل كثيرة تؤكد هذه الحقيقة.

لقد اتجهت الإمارات من وقت مبكر إلى الاستحواذ على ميناء عدن عبر اتفاقية شابها فساد واضح، كما أنها استحوذت على موانئ عديدة في المنطقة ميناء جيبوتي عام 2005م وميناء ومطار عصب في أرتيريا، وميناء العين السخنة في مصر وتسلمت موانئ دبي في مايو 2017 ميناء بربرة في أرض الصومال.

وزاد سعار الإمارات بعد أن ألغى وزير النقل اتفاقية ميناء عدن مع شركة موانئ دبي عام 2012، وفتح وزارة النقل لمطار عدن لاستقبال الطائرات ضمن سياسة الأجواء المفتوحة وتدشين رحلات شركة الطيران التركية ست رحلات أسبوعياً إلى مطار عدن، و بدا من ذلك الحين اهتمام اسطنبول بمدينة عدن وأخذت تتنامى رحلات رجال الأعمال إلى اسطنبول وأخذت السوق اليمنية تتنامى في استقبال البضائع التركية، وهذا الأمر يفسر عداء الإمارات اليوم للإخوان المسلمين وحزب الإصلاح في الجنوب واعتماده على القوى السلفية وقوى الحراك التي تضمر عداء للإخوان.

د - اشتباك المصالح الإقليمية..

الصراع القطري الخليجي الذي ظهر العام الماضي له جذور تسبق بروزه العام الماضي، وكما هو معروف لعبت قطر دوراً رئيسياً أثناء الربيع العربي وسعت بكل إمكانياتها أن تجيير هذا الربيع لصالح الإخوان المسلمين ونجحت في بادئ الأمر في عدد من أقطار الربيع العربي، في تونس ومصر واليمن وكادت أن تنجح في ليبيا وسوريا لولا دخول الإمارات والسعودية في الخط، حيث بدأت الإمارات تستشعر خطر ذلك على مكانتها الاقتصادية وخصوصاً أن قبلة الإخوان المسلمين العرب الاقتصادية والاستثمارية بدأت تتجه صوب اسطنبول - كما أسلفنا -، ومن يعود بذاكرته وملامسته لحركة البضائع في الأسواق اليمنية، يدرك تعاظم غزو البضائع التركية الأسواق اليمنية وهذا الامر نلمسه من خلال زيادة رحلات الطيران بين البلدين حيث وصلت عدد الرحلات إلى مطار عدن إلى ست رحلات أسبوعياً -كما أسلفنا- هذا مؤشر على تعاظم النفوذ الاقتصادي التركي في البلد وهذا بالتأكيد جاء على حساب الاقتصادين الإماراتي والسعودي تحديداً.

مما سبق يمكن أن نفهم هذا التحالف المتين بين السعودية والإمارات.

كما أن المصالح المتشابكة بين بعض فرقاء الداخل المرتبطة بأقطاب المصالح الإقليمية تظهر طبيعة التحالفات التي ظهرت جليةً في الجنوب العام الماضي وازدادت وضوحاً بعد انقلاب 2ديسمبر 2017م، ويمكن أن نلحظ هذه الحقيقة

أن تحالف الإمارات واضح بأنه تحالف مع علي صالح، بينما القوى التي تعتمد عليها السعودية منقسمة على بعضها بحكم تركيبة حزب الإصلاح المتعدد في تياراته وولاءاته، مشيخة الأحمر وعلي محسن أدواتها منذ وقت مبكر وتعتمد عليهما اعتماداً كلياً، بينما تيار الإخوان المسلمين يدين بالولاء لدولة قطر، ولقد استأثر تيار الإخوان المسلمين بقرار حزب الإصلاح بعد وفاة الشيخ الراحل عبدالله بن حسين الأحمر الذي كان شوكة ميزان المملكة بالنسبة للحزب بوجوده كانت الشوكة لا تشير إلاّ للمملكة.

وعليه فإن هذه الصورة ستوضح لنا كثير من الأمور التي تحدث في الجنوب راهناً، ولماذا ركزت الإمارات كل ثقلها في الجنوب، فلقد كان الجنوب بموانئه وموقعه الجيواستراتيجي رهينة في يد علي صالح، ومن خلاله تكونت شبكة مصالح مع الإمارات، حتى تسليم عدن وتسليم معسكر خالد في الساحل الغربي للإمارات في هذه الحرب العدوانية جرى ضمن اتفاقات بينه وبين الإمارات.

ومنذ البداية نهج الاحتلال الإماراتي سياسة إنشاء حليف جنوبي توجته بتأسيس المجلس الانتقالي الجنوبي في مايو 2017، وهذا الأمر تحسباً وتأسيساً لنفوذ في الجنوب بأدوات جنوبية إذا ما ذهب البلد إلى خيار الإنفصال، السؤال الذي يمكن أن يطرح نفسه هل الإمارات مع الإنفصال أو تعارضه، يمكن القول أن الإمارات ليست مع الانفصال، ولكنها في نفس الوقت تفخخ الإنفصال - إذا ما صار واقعاً - بتناقضات من الآن لا حصر لها . لأن الإنفصال لن يكون في مصلحتها إذا تركته يحدث بإرادة حرة مستقلة وموحدة، لما يعنيه ذلك من تهديد على مصالحها، حيث ستتجه تلك الإرادة إلى توظيف كل إمكاناتها ومقدراتها الاقتصادية بما فيها ميناء عدن وهذا سيصطدم مع مصالحها ويؤثر عليها، ولذلك الإمارات استخدمت وسيلة تفخيخ المجلس بأن أسسته منذ البداية مفخخاً بالتناقضات، وبعد 2ديسمبر صارت بيدها الوسيلة الأفضل إعادة تنظيم قوات الراحل علي صالح ودعمها وتهيئتها لأن تعيد الحكم السابق من خلاله، وتكاد معالجات الإمارات للوضع في مصر والانقلاب على الرئيس محمد مرسي تكون متشابهة مع ما تعمله في اليمن، إذا ما قابلنا بين حزب النور المصري السلفي والمجلس الانتقالي، وقابلنا بين عبدالفتاح السيسي وطارق محمد عبدالله صالح، إنها تستخدم نفس الوصفة حيث سيلعب المجلس الانتقالي من حيث لا يعلم معظمهم دور حزب النور في مصر الذي ساعد على شرعنة الانقلاب على الإخوان وإعادة حكم المؤسسة العسكرية...

2- صراع أقطاب داخل تحالف هادي "تأكل شرعية هادي"

تعاني أقطاب تحالف قوى هادي من صراعات واختلافات وبدأت تزداد أكثر وأكثر بعد 5ديسمبر بمقتل علي صالح، فلقد كان وجوده يجمعها كحالة ثأرية لتيارات منيت بهزيمة منه على مراحل متفرقة على الرغم من تناقضاتها، لكن بدأت هذه التناقضات تظهر جليّةً بعد مقتله، وهذه التناقضات لها علاقة بتبعية هذه القوى للقوى الإقليمية المتناقضة في مصالحها وأجندتها السياسية المتباينة وستؤول في نهاية المطاف إلى تآكل هذه القوى وافتراقها. ولعل من خلال هذه المؤشرات تؤكد على نهاية " الشرعية المزعومة" وضعفها وتآكلها، وهناك أسباب لهذا التآكل يمكن أن نوجزها بالآتي:

أ- الإقالات والاستقالات الدائمة.

ب- إعادة تدوير قيادات فاسدة سابقة على سبيل الترضيات واستقطاب عناصر من النظام القديم كانت سبب الانهيار، واستمرارها بالفساد.

ج- إعدام خبرات وكفاءات بعض المعينين الجدد وعلى قاعدة كسب ولاءات ليس إلاّ.

إن أحد أسس قوة أية شرعية تقوم على العناية في الاختيار تتسم بالكفاءة وحسنة السمعة على أن تبقى في تأدية مهامها المدة القانونية لذلك، في حين التغييرات المستمرة وخلال فترات قصيرة تضعف هيبة هذه الشرعية، وهذا التغيير الدائم في تحالف هادي تفرضه دول العدوان تحقيقاً لمصالحها .

3- اختلاف الأجندات يؤدي إلى صدام بالضرورة.

ومن هنا يمكن التأكيد وتأسيساً على ما سبق ذكره أن اختلاف الأجندات وتباين المصالح ستفضي إلى صدامات مستمرة وصراع بين القوى المختلفة المدعومة من طرفي الاحتلالين الإماراتي والسعودي، وكل مؤشرات القوى على الأرض وحالة الاستقطابات والتجهيزات العسكرية تدلل على الاستعداد للصراع القادم.

4-أين يكمن الخلاف الإماراتي السعودي

عدن بؤرة خلاف أو تحسب من طرف وتطلع من الطرف الآخر، الإمارات لا تريد أن تقوى شوكة السعودية في عدن خوفاً من أن تصبح ورقة ابتزاز مستقبلية على الإمارات، ولعلنا نتذكر الصراع القديم عندما طرح مشروع إنشاء جسر يربط آسيا بأفريقيا من قبل شركة بن لادن السعودية في عهد صالح، وهذا المشروع يستثير حفيظة الإمارات بما يعنيه اقتصادياً لمدينة عدن ومينائها المتميز.

ولذلك فإن الإمارات لن تترك للسعودية موطئ قدم في عدن وسوف يحتدم الصراع بينهما بعد أن تحسم شرعية النظام في المملكة .

يبدو واضحاً أن الإمارات تضع سيناريوهات متعددة وتحتاط لها، وعليه فإن الإمارات فخخت الجنوب لأسوأ الاحتمالات المضرة بمصالحها، في حين السعودية تعيش حالة تيه وتخبط، ومن المحتمل أن يقود صراع المصالح إلى مواجهات بين الفريقين بأدواتها المحلية، وهذا الأمر ليس مستبعداً لأن الذهنية السياسية العربية نزقة وانفعالية تفتقر معايير ومبادئ إدارة الملفات السياسية بالسياسة كعلم وتديرها بالغرائز والعواطف الآنية، ولأنها أنظمة تابعة رهينة في قرارها وتنفذ أجندات غيرها، ولذلك فإن وضع مستلب كهذا سيفضي إلى صراع لأنه محكوم في طبيعته إلى مدى ثبات وتفاهم قوى الصراع العالمية الرئيسية.

5- صراع مصالح القوى الدولية أم تقاسم ؟

الصراع يجري اليوم على تقاسم المنطقة بين الدول الكبرى والتدشين لسايكس بيكو جديد بعد أن انتهت هذه الاتفاقية (مدتها مئة عام) في مايو 2017 المنصرم، وكما هو معروف أن الاتفاقية المنتهية تمت على أنقاض الحرب العالمية الأولى وصاغها الحلفاء المنتصرون (بريطانيا وفرنسا وروسيا) وتقاسموا تركة الرجل المريض ( تركة الخلافة العثمانية )، ولم يكن بالإمكان الوصول إليها إلاّ بعد أن تجسدت معالم القوة على الأرض، وأفرزت منتصرين و مهزومين، وما يجري اليوم يشبه إلى حد بعيد ما حدث قبل قرن، القوى تصطرع في المنطقة للوصول إلى نفس النتائج، لكن يختلف صراع اليوم عن صراع الأمس، فلقد أضحى صراع اليوم بالوكالة، صراع جيوش ومليشيات محلية وبدعم لوجستي من هذه القوى الدولية، ولأن معظم المصالح في اليمن فرنسية أمريكية بريطانية أوروبية، فإن هذا الحلف يسعى لأن يفرض أحقيته، وتقسيم المنطقة التي تظهرها هذه الحرب، أن تكون اليمن كعكة تقاسم بين مصالح رئيسية، بريطانيا بحكم إرثها الاستعماري للجنوب وفرنسية بحكم استثماراتها الكبيرة في اليمن مع الحفاظ على مصالح أمريكا، وفي المقابل المملكة ستبقى أمريكية المصالح والإمارات بريطانية وقطر فرنسية بحكم الاستثمارات، إنه يجري تقاسم المنطقة عبر سايكس بيكو جديد يحاولون تحقيقه بالحرب.

رابعاً/ الصراع على الموانئ والجزر والمحافظات.

جنوب اليمن يتمتع بموقع جيوسياسي جرى الصراع عليه من قبل القوى الاستعمارية في كل العصور، وزادت أهمية مواقعه بعد شق قناة السويس وافتتاحها. في عام 1869م وأثناءها كانت عدن تحت الاحتلال البريطاني، ومن ينظر إلى الخريطة سيجد أن جنوب اليمن يطل على بحر العرب وفضاءه مفتوح على المحيط الهندي، كما أنه يمتد غرباً إلى البحر الأحمر عبر مضيق باب المندب وتنتشر في بحر العرب والبحر الأحمر عدد من الجزر و الأرخبيلات، أهمها جزيرتي ميون وسقطرى .

 جزيرة ميون أو جزيرة بريم هي جزيرة بركانية في مدخل مضيق باب المندب، وتبلغ مساحتها 13 كم² وترتفع إلى منسوب 65 م، ويبلغ تعداد سكانها 221 نسمة حسب التعداد السكاني في اليمن لعام 2004.

وتقع الجزيرة في بوابة مضيق باب المندب وتبلغ المسافة بين ضفتي مضيق باب المندب 30 كيلومتراً أي نحو 18.6 ميلاً، فإن جزيرة ميون تفصل المضيق إلى قناتين، الشرقية منها تعرف تاريخياً باسم "باب اسكندر"، يبلغ عرضها 3 كيلومترات وعمقها 30 متراً ولا تمر عبرها السفن. بينما القناة الغربية واسمها "دقة الميون" عرضها 25 كيلومتراً وعمقها يصل إلى 310 أمتار، وهي التي تمر عبرها السفن.

تسمى بالإنجليزية (Perim) وفيها ميناء طبيعي في طرفها الجنوبي الغربي. الجزيرة قليلة الخضرة وتفتقد المياه العذبة، الأمر الذي أعاق استيطانها.

غزا البرتغاليون بريم عام 1513، إلا أنهم لم يبقوا فيها بسبب المناهضة العثمانية. واحتلت فرنسا بريم عام 1738، وفي سنة 1799 احتلتها شركة الهند الشرقية البريطانية لفترة قصيرة تمهيداً لغزو مصر.

ثم أعادت بريطانيا احتلالها سنة 1857 وربطتها بمستعمرة عدن وبنت فناراً عليها، لتشهد عصرها الذهبي مع افتتاح قناة السويس عام 1869 واستخدمتها محطة تموين السفن بالفحم. أفل نجم الجزيرة مع حلول الجازولين محل الفحم. في عام 1916، أثناء الحرب العالمية الأولى، حاولت القوات العثمانية الاستيلاء على بريم، إلا أنها فشلت. في عام 1967 صوّت سكان بريم لينضموا لليمن الجنوبي الذي استقل في ذاك العام.

تقف جزيرة ميون عند مدخل مضيق باب المندب و تقسمه إلى معبرين" يمر به سنوياً بين(16-20 ألف سفينة)،أي حوالي ( 20%) من إجمالي إرساليات التجارة الدولية وحوالي (30%) من الملاحة النفطية العالمية ( المركز الدبلوماسي للدراسات الاستراتيجية، أما جزيرة سقطرى تقع في الجهة الجنوبية للجمهورية اليمنية قبالة مدينة المكلا شرق خليج عدن بين خطي عرض ( 12.18ْ – 12.24ْ ) شمال خط الاستواء وخطي طول ( 53.19ْ – 54.33ْ ) شرق جر ينتش وتبعد ( 380 كم ) من رأس فرتك بمحافظة المهرة كأقرب نقطة في الساحل اليمني بما يقدر بـ ) 300 ميل) كما تبـعـد عـن محافـظـة عدن بحـوالـي ( 553 ميلاً )

ويستمد اليمن أهميته الجيواستراتيجي من موقعه، ولذا فإنه محل أطماع استعمارية منذ القدم.

وإلى جانب الأهمية الجيواستراتيجية، فإن كثيراً من المؤشرات تؤكد على أهميته الاقتصادية نظراً إلى كونه أرض بكر واعد من حيث ما تكتنزه أراضيه الواسعة من ثروات طبيعية، وهي معلومات غير مفصح عنها من قبل كثير من الشركات، لكن هذه الحرب ومجرياتها والتركيز على احتلاله يطرح ألف سؤال وسؤال .

ويبدو أن مراكز القوى العالمية تسعى إلى تقسيم كعكة المنطقة عبر حروب "الفوضى الخلاقة" في الشرق الأوسط، ويراد من الحروب الراهنة أن تفضي إلى تقاسم المنطقة وشرعنة سايكس بيكو جديد، وعلى إثر نتائجها يجري تقاسم المصالح الجيوسياسية بين قوى الهيمنة العالمية، إنها أزمة الخروج من هيمنة القطب الواحد وتشكل نظام عالمي جديد تعددي الأقطاب، أقطاب تتقاسم المصالح بالحرب وبسط النفوذ والاحتلال بحثاً عن استقرار نسبي للعالم، وذلك عبر توازن وتبادل الاستحواذ على المواقع الجيواستراتيجية كما حصل بعد الحرب العالمية الأولى وكذلك بعد الحرب العالمية الثانية واتفاقية الحلفاء في مالطا ، وكما حصل هذا في مطلع سبعينيات القرن المنصرم عندما اتجه جنوب اليمن باتجاه المعسكر الاشتراكي، وتبدل موقع مصر في عهد السادات من الدوران في فلك المعسكر الاشتراكي إلى التحول إلى سياسة الانفتاح والدوران في الفلك الرأسمالي بعد حرب 6 أكتوبر 73 م، حيث انتقلت قناة السويس ضمنياً كإحدى الأوراق الجيواستراتيجية بيد العالم الرأسمالي، بينما صار مضيق باب المندب بيد المعسكر الاشتراكي.

ولهذا فإن المواقع الجيواستراتيجية يمكن للقوى الدولية المتصارعة أن تقبل تبادل الممرات الخانقة، وهذا الأمر يحدث استقرار وتوازن وبالتالي تأمن على مصالحها، ويتركز الصراع الناعم على مصادر الطاقة خصوصاً الواعدة التي تكون محل صراع وحروب سيطرة واستحواذ.

تعد جزيرة ميون من أهم الجزر اليمنية، ولقد كانت عرضة للاحتلال دائماً لموقعها الجغرافي المتميز الذي يطل على مضيق باب المندب، ولذلك فإنها تتمتع بأهمية استراتيجية وتسعى الولايات المتحدة الأمريكية من خلال هذه الحرب العدوانية إلى انتزاعها من السيادة اليمنية عبر احتلال بالوكالة أو ستطرح للتدويل والإشراف الدولي.

أما جزيرة سقطرى وضعت الولايات المتحدة الأمريكية عينها عليها منذُ نهاية الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفيتي، فموقع الجزيرة " يشجع على استغلاله في بناء نظام معلومات الإشارة للتنصت ومتابعة الأقمار الصناعية التي ترسل المعلومات عن الشرق الأوسط والأقصى وهو ما تعتزم تنفيذه" كما أن الجزيرة " تقع بالقرب من الدول الأفريقية ولاسيما القرن الأفريقي وهذا يعطيها ميزة القرب من مركز الأحداث في المنطقة لمكافحة الإرهاب الموجهة ضد تنظيم القاعدة في اليمن والقراصنة الصوماليين"( أنظر الاهمية الاستراتيجية لجزيرة سقطرى/اليمن أطروحة دكتوراه ظلال جواد كاظم كلية الآداب جامعة الكوفة غير منشورة ص) ويجري تحضير جزيرة سقطرى، لأن تكون قاعدة عسكرية متقدمة أمريكية لأي خيارات عسكرية مع إيران مستقبلاً " أن انشاء قاعدة عسكرية أمريكية في سقطرى هو جزء من عملية واسعة لعسكرة المحيط الهندي لربط سقطرى في بنيته القائمة، فضلاً عن تعزيز الدور الرئيس الذي تضطلع به قاعدة دييغو غارسيا ( أكبر قاعدة بحرية عسكرية أمريكية في المحيط الهندي تبعد عن جزيرة سقطرى 3000 كيلو) " وهذا ما أكده "الفريد ماهان" للبحرية الأمريكية قبل الحرب العالمية الأولى " أن كل من ينال التفوق البحري في المحيط الهندي سوف يكون لاعباً بارزاً على الساحة الدولية"، أظن هذا هو هدف تحالف دول العدوان الاستراتيجي، وهدف القوى الاستعمارية القديمة الجديدة.

كما أن موقعها الاستراتيجي ومداه البحري سيوفر لمن يسيطر عليه تسهيلات لوجستية لأي عمليات عسكرية بحرية وسيؤدي دور إسناد للقوة المسيطرة. ولذلك فإن الولايات المتحدة سعت منذ وقت مبكر توسيع تواجدها من أجل السيطرة على الممرات البحرية والجزر الاستراتيجية بوصفها أحد أشكال "حرب المخانق" ضمن الصراع الاقتصادي العالمي بين القوى الكبرى وخصوصاً الصراع بين الولايات المتحدة والصين الذي أخذ يحتدم، ولا يستبعد أن تسعى الولايات المتحدة الأمريكية إلى وضع الجزر اليمنية جزيرتي سقطرى وميون تحت الوصاية الدولية، بحجة حالة الفوضى التي يتم هندستها في الجنوب.

يتميز ميناء عدن بعبقرية مكان وهو ميناء طبيعي لا تبعده عن الخط الملاحة الدولي للسفن سوى بضعة أميال، وهذا الميناء كان من أشهر. موانئ العالم حتى قبل استقلال الجنوب عام 67 م، ولأنه بهذه المزايا؛ بات يهدد ميناء رأس جبل علي في دبي تهديداً مباشراً الذي يبعد عن خط سير الملاحة الدولية مئات الأميال، ومن الناحية الاقتصادية، فإن ميناء عدن يعد الأمثل والأفضل إذا ما تهيأت له الظروف الملائمة والإرادة الوطنية، وهذا الأمر يفسر حالة الفوضى العارمة في مدينة عدن، وهذه الفوضى جرى ويجري هندستها، وتستغل الإمارات تناقضات القوى الداخلية وتغذيها، وهذا لا ينفي أسباب التناقضات الداخلية، بل يمكن القول أن ما شهدته هذه المدينة من صراعات سابقة تعد الفتيل الذي يجري إضرام نارها اليوم بسهولة ويسر، ولذلك فإن عدن مدينة تتميز بعبقرية في المكان افتقرت إلى إرادة وطنية يحمل مشروع وطني يوظف موقعها في تحقيق تنمية اقتصادية يستفيد منه كل اليمن.

وبناءً عليه فإن صورة ما يحدث في عدن من صراع وفوضى يجد تفسيره - كما أسلفنا - ولذلك فإنه من الضروري التركيز على توضيح هذه الصورة اعلامياً وطرح برنامج وطني عام يتم الحوار فيه مع مختلف القوى من أجل توحيد رؤاها بخصوص التنمية الاقتصادية الشاملة، يتم توظيف كل مقومات ومقدرات البلد بعيداً عن الحسابات الضيقة، لأنها الطريق الأسهل والأضمن للخروج من حالة الارتهان والتبعية وفك ارتباط هذه التشابكات التي لا تخدم مستقبل البلد وتطوره اللاحق.

المهرة في قلب صراع الأجندات

ظلت المهرة محافظة هادئة منذ توقيع اتفاق صلالة في مطلع ثمانينيات القرن المنصرم بين جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية وسلطنة عمان، هذه الاتفاقية أنهت التوتر الذي ساد في السبعينيات وحسمت أمر ترسيم الحدود فيها على يتم تأجيل التوقيع عليها حتى تحقيق الوحدة اليمنية وهذا ما حدث فعلاً في عام 1992م، تم توقيع الاتفاقية.

لقد أنهى اتفاق صلالة الجبهة الشعبية لتحرير عمان ترتب عليها مصالحة وطنية عمانية وعادت قيادة الجبهة وتم إشراكها في الحكم، وترتب عليها من الجانب العماني اهتمام بمحافظة المهرة وأخذت السلطنة تهتم بالمحافظة وسكانها باعتبارها مجال حيوي للسلطنة ويهمها أن تكون محافظة آمنة كجزء من أمن السلطنة، نتيجة التداخل القبلي والعشائري بينها وبين قبائل وعشائر السلطنة وتربطهم علاقات مصاهرة ونسب، ولم يشهد البلد أي مشكلات تتعلق بسيادته، بل كانت السلطنة تتعامل مع السلطات المحلية ومساعدتها وقدمت مشاريع عديدة للمحافظة.

وبدأ الاحتلال الإماراتي والسعودي يضعان هذه المحافظة ضمن أجنداتهم، إذ تعتبر بالنسبة للإمارات ورقة ضغط على السلطنة ضمن الصراع التاريخي بينهما، أما المملكة يدفعها إلى ذلك أمران:

أنها لم تك موافقة على ترسيم الحدود الذي أبرم بين الجمهورية اليمنية والسلطنة عام 1992م، وأبدت انزعاجها في ذلك الحين وتدعي بأن لها حق في بعض المناطق المتاخمة للبلدين الموقعين على الاتفاقية، ولذلك فإنها وضمن أطماعها التوسعية وضعت تواجدها فيها في رأس أولوياتها وبدأت في تأسيس معاهد دينية فيها، وهذا الأمر سينعكس سلباً على أمن واستقرار المحافظة، كما سينعكس سلباً على السلطنة.

أما الأمر الآخر، فإنها تبحث عن نفوذ وتواجد من أجل تأمين مشروعها القادم قناة سلمان وتعد هذا التواجد ملحاً في تأمين هذا المشروع، وهذا الأمر يثير حفيظة السلطنة وإيران المشرفتين على مضيق قناة هرمز.

5- الإرهاب وظيفياً

لقد ظلت الولايات المتحدة الأمريكية مع نظام الحكم يوظفون قضية الإرهاب والجماعات الإرهابية ويرفعون شعار محاربة الجماعات الإرهابية والقاعدة في اليمن، في نفس الوقت شيوخ هذه الجماعات الكبار يرتبطون بمصالح مع نظام الحكم ومراكز قواه، وتنتشر معاهد تفريخ هذه الجماعات تحت سمع وبصر السلطة والولايات المتحدة الأمريكية، ولذلك يمكن أن نستشف أن القاعدة والجماعات الإرهابية لم تك إلاّ ذريعة لأمر آخر، ويبدو أن الهدف من وراء ذلك هو حرب أمريكا الاقتصادية مع الصين ( لقد سعت الصين لأن يكون لها موطئ قدم في عدن قبل عقد من الزمن قبل أن تتجه باتجاه جيبوتي)، ولم يكن بإمكان الولايات المتحدة أن تصارع الصين دون أن تحتل اليمن وتحديداً مواقعه الاستراتيجية المتمثلة بالجزر والموانئ وبهذا يمكنها أن تستعد لحرب المخانق في مقابل أول قاعدة عسكرية خارجية إقامتها في أغسطس من العام الماضي في دولة جيبوتي الأفريقية الصغيرة، مما يعد توسعاً كبيراً لنطاق جيش التحرير الشعبي.

فلقد بدأت الصين تستشعر الخطر على تطورها الاقتصادي ونموه وأخذت تخرج عن سياسة الانكفاء والانسحاب من الصراعات الدولية وتكون منصات في المنطقة وتنشر قواها الناعمة من خلال ربط وتشبيك اقتصادي مع دول في المنطقة كما نقلت دانا سانشيز: "الصين تمول جيبوتي بأغلب مشروعات البنية التحتية المقدرة بـ14.4 مليار دولار" وعلاوة على عمليات التبادل الثقافي، مثل إقامة معاهد كونفوشيوس، بدأت القوة الناعمة الصينية في منافسة الولايات المتحدة، وخصوصاً في مناطق يقل فيها الحضور الأميركي أهمها القارة الأفريقية.

واقع الجنوب

الجنوب اليوم يعيش أزمة 7/7/1994م، تلك الأزمة الذي تعامل معها نظام علي صالح من موقف المنتصر والمهزوم، وهذا الموقف أشاع في نفوس معظم أبناء الجنوب سيكولوجية المهزوم، ما أدى إلى ردة فعل انتقامية تعبيراً عن حضور الذات (المهزومة).

وللأسف الهزيمة أو الفشل في ميدان السياسة إذا لم يتم استيعابها من الفعاليات السياسية بصورة نقدية تفضي إلى خيارات لا تمت للسياسة بصلة أو خيارات تتناقض مع مبادئ سياسية كانت تتبناها هذه القوى السياسية، كما نشهده اليوم الانتقال من معاداة الاستعمار إلى الترحيب به والتعامل معه، الجنوب يقدم اليوم حالة سياسية سوريالية تفتقر لأي اتساق منطقي مع تاريخه.

ويمكن أن نلحظ معضلتين في الجنوب اليوم أو أزمتين متلازمتين:

أزمة هوية:

دعوة لإعادة إحياء مشروع هوية وضعها الاستعمار في خمسينيات القرن الماضي وسقط هذا المشروع بسقوط الاستعمار السابق، وهذه الدعوة تصطدم بتناقض من قبل رافعها فلا تتسق المطالبة بعودة دولة الجنوب مع الدعوة إلى هوية بديلة، إذ أن دولة الجنوب يمنية في مضمونها تمتد من باب المندب إلى المهرة، بينما الجنوب العربي مشروع دولة المحميات الغربية وحسب أي من باب المندب إلى تخوم محافظة شبوه. بينما المحميات الشرقية لم تك ضمن هذا المشروع.

أزمة حامل جنوبي جامع ومستقل الإرادة:

يعيش الجنوب حالة استقطاب سياسي ويتوزع أبناؤه وفعالياته السياسية بين قوى إقليمية وكيلة للقوى الدولية، وينعدم أي استقلال سياسي لديها، لأنها فعاليات وقوى تتبع الممول ولا تحيد عنه، ولهذا نرى هذا التخبط والتناقض في المواقف، ونراها مقيدة وتتناقض مواقفها ما بين ليلة وضحاها.

ولأجل يمكن أن نجد أجندات مختلفة متصارعة في الجنوب ويمكن تلخيصها بالآتي:

أولا/ الأجندات المتصارعة:

  1. الأجندة الإماراتية/

تسعى الإمارات وفق خيارين ولذلك تستخدم أداتين:

أ) المجلس الانتقالي وحرصت على تكوينه من أجنحة متعددة:

  1. جناح قبلي مناطقي يرتكز على أبناء الضالع تحديداً.
  2. جناح ديني يرتكز على سلفيين وتتزعمه عناصر من يافع.
  3. عناصر كانت محسوبة على علي صالح.

 ب) قوات طارق عفاش التي انضمت بعد أحداث 2ديسمبر.

 ج) قوات البادية الحضرمية و الشبوانية

من خلال ذلك وضعت الإمارات خطتين:

  1. يمن موحد مشروط بعودة أدواتها القديمة أسرة عفاش أو ما يشابهها ولو بشخوص جديدة.
  2. تقسيم البلد عبر حامل سياسي يحمل في جوفه بذور الانقسام وفي المقابل تأسيسها لقوات البادية في شبوة وحضرموت، ولذا سعت إلى تكوينات مختلفة متصارعة ويمكن إدارة صراعها بحيث يظل الجنوب في حالة صراع دائم وغير موحد في إرادته.

 2) الأجندة السعودية/

 تسعى السعودية إلى إعادة أدواتها القديمة ولكن من دون الإخوان وهذا ما تتقاطع به مع الإمارات ولذلك تدعم شرعية هادي والمشائخ المرتبطين بها.

 3) الأجندة القطرية/

 تسعى إلى يمن موحد بشرعية إخوانية

وهذه الأجندات المختلفة تتحرك ضمن أجندات دولية اللاعبين الرئيسيين فيها فرنسا وبريطانيا وأمريكا، وكل الدول الاقليمية المتصارعة في الجنوب أدوات للاستعمار الدولي.

وبعد هذا التحليل الوصفي نحتاج أن نضع مخارج عملية سنطرحها من خلال الإجابة على السؤال ما العمل؟

السؤال ما العمل؟

هناك متطلبات على سياسية وإعلامية وعسكرية ينبغي وضعها في الحسبان من أجل معافاة الوضع، تلخص كالآتي:

- تأسيس وعاء سياسي جامع يحمل قضية تحرير الجنوب وفق برنامج سياسي عسكري وإعلامي.

ا) إدارة حوار سياسي يوحد القوى الجنوبية وفق برنامج جامع على يتم إشهاره.

ب) إنشاء منابر إعلامية تكون ناطقة ومعبرة عن هذا الوعاء السياسي مواقع إلكترونية صحافة ورقية إذاعات وقناة تلفزيونية ومركز دراسة وأبحاث لاستقطاب النخب للعمل معه.

ج) تكوين عسكري يبدأ من خلال نسب كل العمليات التي يقوم بها الجيش واللجان الشعبية على تخوم الحدود الشطرية السابقة لهذا الوعاء الجبهوي وهذا سيحفز أحرار الجنوب للانخراط فيه.

وينبغي ألا يقتصر العمل المناهض للعدوان على الشكل العسكري، بل دعم كل نضال وطني سلمي ومدني من إضرابات ومسيرات وعصيان مدني وغيرها من الوسائل خصوصاً في المدن الرئيسية عدن وحضرموت.

كما ينبغي التركيز على مناطق الصبيحة والضالع وأبين لأن سقوط هذه المناطق مفتاح لسقوط عدن هكذا علمتنا الخبرة السابقة في مقاومة مشاريع الاحتلال.

عند تكوين الوعاء ينبغي أن نراعي أمرين قيادات ظاهرة في العلن وخصوصاً في مناطق خارج سيطرة الاحتلال، أما القيادات الميدانية داخل مناطق الاحتلال يمكن أن تكون هناك قيادات سرية لضمان سلامتها والاستفادة من عملها في الداخل.

 إن هذه الحرب العدوانية هي جزء من صراع عالمي أكبر على النفوذ في المنطقة، وهو التنافس العالمي للسيطرة على المحيط الهندي.

خلاصة/

إن الصراع الجاري في الجنوب اليمني صراع أجندات مختلفة منها إقليمية وأخرى ودولية، وتنحو أجندة الإمارات صوب تعطيل موقع عدن ومينائها الجيواقتصادي خوفاً على مصالحها من المنافسة، بينما أجندات الهيمنة الدولية فإنها تنحو صوب الاستحواذ الجيواستراتيجي للمنطقة من أجل تأمين مصالحها والاستحواذ على الفضاء الجيوسياسي للمنطقة في خضم صراع قوى الهيمنة الدولية مع بعضها البعض، وفي خضم صراع القوى الصهيوأمريكية مع إيران وجعل المنطقة قاعدة انطلاق في أي حرب مستقبلية مع إيران، وسيظل الجنوب اليمني في حالة فوضى عارمة بسبب اختلاف الأجندات وهذا الوضع سيؤثر كثيراً على حياة الناس فيه، الأمر الذي سيقود إلى نقمة وتفاقم الغضب الشعبي واتساعه، ولذا فإن هذا الوضع يتطلب تهيئة سياسية له من الآن، وذلك من خلال خلق وعاء سياسي جنوبي يتعامل معه وينظمه باتجاه مقاومة الاحتلال مقاومة ناجعة وإفشال مشروع الهيمنة الصهيوأمريكي.

إن مشروع التفتيت وتأجيج الصراعات يتطلب مشروع تنويري إعلامي توعوي ومنبر جنوبي يترافق مع إيجاد وعاء سياسي يحضر الجماهير في الجنوب إلى مقاومة الاحتلال ويفشل مشاريعه.

إذا كان الاحتلال وميليشياته يفشلون، فإنه لا ينبغي على صنعاء أن تعوّل على هذا الفشل وتنتظره، بل عليها أن تصر على اجتراح النجاح في معركتها على كافة الأصعدة، لأن فشل خصمي ليس بالضرورة يعني نجاح لي، فقد يكون الفشل عام.

وينبغي على صنعاء أن تستغل تناقضات تحالف دول العدوان، وتفتح خطوط تواصل مع دول الحياد في المنطقة مثل عمان والكويت إلى حد ما وإبراز مخاطر تغول المملكة والإمارات في حال انتصارها على أمن هذه الدول.

الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر المركز

مواضيع متعلقة