بسم الله الرحمن الرحيم
مقـدمة
انخرطت المقاومة الإسلامية اللبنانية من اليوم التالي لـ 7 أكتوبر 2023، في جبهة إسناد مباشرة للمقاومة الفلسطينية في غزة التي أعلن عنها في اليوم السابق عن معركة طوفان الأقصى، بعمليات نوعية زلزلت كيان العدو الصهيوني، وفرضت عليه تحديا وجوديا غير مسبوق في تاريخ الصراع العربي الصهيوني.
كان التحرك العسكري لحزب الله يعبر عن الترجمة العملية لمبدأ " وحدة الساحات "، الذي شمل فيما بعد الجبهتين اليمنية والعراقية، بالإضافة إلى إيران . وبعد أن طالت حرب الإبادة والمتوحشة على غزة، برزت تساؤلات بشأن فعالية جبهات الإسناد، وبالأخص الجبهة اللبنانية، التي كانت على اشتباك جغرافي مباشر مع العدو الصهيوني في شمال فلسطين المحتلة، وما توافر لها من خبرات متراكمة عسكرية وأمنية، وقدرة فائقة على الحرب النفسية، تجلت في خطابات أمين عام حزب الله الشهيد السيد حسن نصر الله.
كانت الأنظار مسلطة على حزب الله ومجاهديه، فيما الحزب كان يحاول التوازن بين المسؤولية الأخلاقية في دعم غزة والقضية الفلسطينية، وبين الحالة اللبنانية الداخلية، حيث لم تكن غالبية القوى السياسية مقتنعة بمنطق حزب الله، خاصة وأن الفراغ السياسي على مستوى الرئاسة كان يلقي بظلاله على الأوضاع الداخلية، وحاجة الشعب اللبناني إلى تقارب القوى السياسية لمواجهة الأوضاع الاقتصادية المتردية.
وإذ تمكن الحزب من التصعيد تدريجيا في معركة الإسناد مع الحفاظ على التوازنات الداخلية، فإن الاختراقات الدراماتيكية الأمنية، واغتيال قيادات لبنانية وفلسطينية في الضاحية الجنوبية لبيروت، وصولا إلى "عملية البيجر"، وما تلاها من ضربات موجعة للحزب، كان أشدها قسوة وأكثرها فداحة، اغتيال السيد حسن نصر الله في 27 سبتمبر 2024، قد غيرت المشهدية تماما في لبنان والمنطقة. فبعد أيام فقط على تهديدات أطلقها نتنياهو، تغير النظام الحاكم في سوريا، التي دخلت مرحلة ما بعد الأسد على نحو دراماتيكي. وفي هذه الأجواء جرى التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار في لبنان 26 نوفمبر 2024، ما أتاح للحزب أن يلتقط أنفاسه بعض الشيء، ويباشر مراجعة داخلية شاملة، والبناء عليها مستقبلا.
في هذه الورقة يحاول الباحث سبر أغوار أهم التحديات التي تواجه حزب الله، إثر تداعيات "طوفان الأقصى" التي لا تزال قائمة، وهي تحديات ماثلة للعيان، تتساوى وتتوازى في مستوى أهميتها، وتتداخل على نحو كبير في تحديد بوصلة تأثيراتها، ويمكن البناء عليها في فهم متغيرات الواقع الجديد، واستشراف مستقبل حزب الله ومحور المقاومة بشكل عام.
منذ اتفاق وقف إطلاق النار بين لبنان والكيان الصهيوني الذي دخل حيز التنفيذ في 27 نوفمبر 2024 والخروقات والاعتداءات من جانب إسرائيل على لبنان وحزب الله لا زالت متواصلة، بالتوازي مع استمرار احتلال العدو لخمس مناطق في جنوبي لبنان تبدأ من الساحل اللبناني غربًا، وتحديدًا من تلة اللبونة المحاذية لبلدة الناقورة، وتضم 3 تلال في القطاع الشرقي لجنوب لبنان، وهي تلة جبل بلاط المحاذي لبلدة مروحين الحدودية، وتلة الحمامص بين بلدتي الخيام وكفركلا، التي تقع في موقع استراتيجي يطل على مستوطنة "المطلة" داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، وكذلك تلة العويضة الاستراتيجية التي تتحكم بمراقبة مناطق عديدة وصولاً الى مجرى نهر الليطاني. أما النقطة الخامسة فهي تلة العزية الواقعة بين بلدتي كفركلا ودير ميماس، وتشرف على الجليل المحتل مع بلدات لبنانية عديدة [1].
بالنسبة للخروقات والاعتداءات فهي لم تتوقف على مدى الأشهر الماضية، وقد نشر الموقع الإلكتروني لقناة المنار التابعة لحزب الله انوغراف يتضمن حصيلة هذه الاعتداءات منذ 27 نوفمبر 2024 وحتى 25 أبريل 2025، وصلت إلى أكثر من 3000 حالة اختراق جوي وبري وبحري، فيما بلغت حجم الخسائر البشرية 149 شهيدا و346 جريحا[2].
واتجهت الحكومة اللبنانية إلى استخدام الوسائل الدبلوماسية في محاولة لإيقاف الاعتداءات الصهيونية، وحذر الرئيس اللبناني أكثر من مرة من خطورة انتهاك إسرائيل للقرار 1701 على الاستقرار في لبنان، وعلى سبيل المثال فقد أكد عون اثناء لقائه بوزير الدفاع اليوناني بتاريخ 8 ابريل 2025 على أن "استمرار الاعتداءات الإسرائيلية على الأراضي اللبنانية وعدم الانسحاب من التلال الخمسة وعدم إعادة الأسرى اللبنانيين، يشكل انتهاكا لقرار مجلس الأمن رقم 1701 ولمندرجات الاتفاق الذي تم التوصل إليه في نوفمبر2024، ومن شأن ذلك تهديد الاستقرار في الجنوب"[3].
غير أن هذا الخيار الذي لم يثبت نجاحه في لجم التمادي الإسرائيلي يبدو أنه المتاح فقط أمام الحكومة اللبنانية، وهذا ما أكده دبلوماسي لبناني في حديث لجريدة الشرق الأوسط، بزعمه أن لا خيار أمام لبنان سوى العمل الدبلوماسي، لأن الجيش اللبناني غير قادر على الدخول في حرب عسكرية مع إسرائيل[4].
وبالنسبة لحزب الله، فقد أعلن أمينه العام الشيخ نعيم قاسم أن الحزب قد ترك للدولة اللبنانية مسؤولية الرد على الاعتداءات الإسرائيلية بالطريقة التي تراها الحكومة. وقال بهذا الخصوص: نحن سلّمنا للدولة اللبنانية أن تكون هي المفاوض الأساسي، وهي التي تستخدم الجيش اللبناني من أجل القيام بواجباته في جنوب نهر الليطاني وفي كل لبنان، نحن نعتبر أنّ الدولة مسؤولة عن المتابعة بالضغط على الدولتين الراعيتين، أمريكا وفرنسا، وكذلك على الأمم المتحدة ومجلس الأمن وقوات الطوارئ الدولية، على الدولة أن تضغط، والضغط الذي مارسته الدولة حتى الآن هو ضغط ناعم وبسيط، لا يرقى إلى أكثر من بعض التحركات وبعض التصريحات[5].
وبعد ستة أشهر على بدء سريان وقف إطلاق النار لا يزال الحال في نفس المستوى: اعتداءات واحتلال من جانب الكيان الصهيوني، وردود سياسية للجهات الرسمية اللبنانية من خلال الدبلوماسية الناعمة، وانتقادات لهذه الانتهاكات من جانب حزب الله مع تحميل الدولة اللبنانية مسؤولية الرد.
وعليه فإن استمرار الانتهاكات الإسرائيلية يبقى التهديد الأكبر اليوم في وجه الدولة اللبنانية وعلى صعيد مستقبل المقاومة، وإذ تعمل إسرائيل على فرض سياسة الأمر الواقع، وتستمر يوميا في إثخان حزب الله، فإن قواعد الاشتباك التي تغيرت لصالح العدو الصهيوني، وجعلته يتحرك في إطار معادلة الاستباحة الشاملة لا يمكن لها أن تستمر، فللصبر حدود كما ألمح إلى ذلك الشيخ قاسم.
ويرتبط التهديد الإسرائيلي القائم بمشكلة ترسيم الحدود البرية خاصة بعد الاتفاق على الحدود البحرية 2022، بمشاركة فاعلة من حزب الله. فإسرائيل التي تستهدف قدرات حزب الله العسكرية وتعمل على تحجيمه إلى أقصى نقطة ممكنة، تدرك أن أمنها واستقرارها مستقبلا رهن الاتفاق على الحدود البرية وترسيمها، ثم بالاعتراف المتبادل والتطبيع بين لبنان وإسرائيل، بالموازاة مع مشروع نزع سلاح المقاومة في الداخل اللبناني.
وعلى طاولة ترسيم الحدود تقفز " مزارع شبعا " كموضوع نزاع، ليس فقط بين لبنان والكيان، ولكن بين لبنان وسوريا أيضا، وقد يكون لبنان بحاجة إلى تفاهم مع سوريا بشأن مزارع شبعا قبل الانخراط في مفاوضات مع إسرائيل.
من الملاحظ أن قواعد الاشتباك الجديدة التي تعمل إسرائيل على فرضها في لبنان، تحظى بقبول لدى أطراف سياسية وازنة في الداخل اللبناني، فالحكومة وهي تعبر عن عجزها وقلة حيلتها تجاه الاستباحة الإسرائيلية، ترفع الصوت على نحو غير مسبوق حيال حزب الله وسلاح المقاومة تحت غطاء حق الدولة في احتكار السلاح ومسؤولية قرار السلم والحرب.
ففي البيان الوزاري لحكومة نواف سلام الذي بموجبه نالت الحكومة ثقة البرلمان 25 فبراير 2025، إشارة واضحة إلى "احتكار الدولة حمل السلاح وحق لبنان في الدفاع عن النفس في حال حصول أي اعتداء"[6].
وفي خطابه أمام القمة العربية في بغداد 17-5-2025 أعاد سلام الحديث عن حصر السلاح، وقال: "نجتمع اليوم، وقد افتتح لبنان، صفحة جديدة في تاريخه بانتهاج سياسة واضحة وحازمة تلتزم الاصلاح في مختلف المجالات، وتقوم على فرض سيادة الدولة للبنانية على كامل أراضيها وحصر السلاح بيدها، وتؤكّد أنّها وحدها تمتلك قرار السلم والحرب. وبقدر ما إن ثنائية الإصلاح والسيادة هي مسؤولية لبنانية، أولاً واخيراً، فان مواكبة الاشقاء العرب ودعمهم لنا في هذه المسيرة لهو عامل أساسي في إنجاحها، ونقدره أعلى تقدير"[7].
من الواضح أن الحديث عن حصر السلاح يقصد به نزع سلاح المقاومة، وهو عنوان مطروح بقوة في التناولات الإعلامية اللبنانية، ولأن هذا الهدف يلقى هوى لدى عدد كبير من الحكام العرب، فقد قدمه سلام في إطار المتغير اللبناني الأهم حاليا، ما يستدعي مواكبته ودعما عربيا، حد قوله.
لكن كيف يقرأ حزب الله هذا التوجه الحكومي المعلن بخصوص سلاح الحزب؟
بالعودة إلى خطابات أمين عام حزب الله، نجد أن الحديث عن نزع سلاح المقاومة يتسبب في حساسية كبيرة تجعل الحزب يؤكد قطعا أن لا قبول ولا تعاطي مع فكرة نزع السلاح بالقوة، ففي خطاب له بتاريخ 18-4-2025، يقول قاسم: "سنواجه من يعتدي على المقاومة ومن يعمل من أجل نزع السلاح كما واجهنا إسرائيل"، وتابع "لن نسمح لأحد أنْ ينزع سلاح حزب الله أو أنْ ينزع سلاح المقاومة" [8].
غير أن هذا الموقف الذي قد يبدو متشددا، ليس مفتقرا للمحاجة العقلانية الموضوعية، فحزب الله على لسان أمينه العام لا يفتأ يُذكّر بالدور الكبير للمقاومة وسلاحها في مواجهة التهديد الإسرائيلي وفرض قواعد اشتباك ما كان لبنان أن يصل إليها لولا المقاومة ودور حزب الله. ولهذا يوجه قاسم تساؤلاته ردا على الأصوات الداخلية المتشنجة، التي تختزل مشاكل لبنان في "سلاح المقاومة": هل تعرفون ما معنى نزع سلاح المقاومة بالقوة؟ يعني تقديم خدمة للعدو، وهذه فتنة لن تحصل[9].
وعندما يتكلم أمين عام حزب الله عن الفتنة في لبنان، فهذا لأن الضغط الداخلي الذي يتعرض له الحزب بخصوص سلاح المقاومة، لا ينفصل عن الانتهاكات الإسرائيلية التي يتعرض لها لبنان وحزب الله، ومحاولة العدو الصهيوني تكريس استباحة لبنان وتدمير مقدرات حزب الله، على غرار السيناريو المتبع في سوريا.
من هنا يناور الحزب بالحديث عن الاستراتيجية الدفاعية كشرط للتفاوض الداخلي بشأن سلاح المقاومة، مع علم الحزب وقياداته أن خصوم المقاومة في الداخل وأعداءها من الخارج يتصرفون على اعتبار أنه هذه هي الفرصة المواتية لنزع سلاح الحزب، وربما تصفية الحزب سياسيا[10].
وعليه يتعين على الحزب الاختيار بين ثلاثة سيناريوهات، إما تسليم السلاح للدولة، أو المواجهة والحرب الأهلية لا سمح الله، أو أن يقبل الفرقاء الجلوس على طاولة حوار للبحث عن حل وسط تحت عنوان الاستراتيجية الدفاعية.
لا يخفى حجم الضربات الموجعة والقاسية جدا التي تلقاها حزب الله تباعا خلال فترة وجيزة من العدوان الإسرائيلي على لبنان، أدت إلى اغتيال قيادات كبيرة من الصف الأول، بالإضافة إلى مئات الكوادر النوعية التي يصعب تعويضها.
لقد بدا الحزب مع أجهزته التنفيذية منكشفا أمنيا على نحو غير متوقع، ليس فقط من خلال عملية البيجر- 17-9-2024، التي نفذها جهاز المخابرات الإسرائيلي -الموساد، حين قام بتفجير المئات من أجهزة اللاسلكي التي يستخدمها عناصر حزب الله، وأدت إلى مقتل وإصابة المئات من الكوادر الأمنية والمدنية للحزب، ولكن بعد أن تمكنت إسرائيل من اغتيال قيادات وازنة من الصف الأول في الجهاز العسكري والأمني لحزب الله.
ظهر الحزب بعد العملية، فاقدا للتوازن وسط ذهول حاضنته الاجتماعية ومناصري المقاومة في الداخل والخارج، خاصة أن الاغتيالات استمرت ووصلت إلى رأس الهرم وسيد المقاومة الشهيد حسن نصر الله، ثم السيد هاشم صفي الدين.
ومع التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار كانت إعادة بناء الحزب وتحصينه من الداخل على رأس المهام والأولويات التي لا تحتمل التأخير، وما يزال الحزب يسابق الوقت لاستعادة الثقة في الذات، من خلال العمل على ترميم مكامن الخلل ومعالجة مواطن القصور.
صحيح أن الحزب لم يتعرض للانهيار، غير أن فاعليته وقوته قد تراجعت إلى حد كبير. ومما يحسب للحزب وساعده على تخطي المحنة الأليمة والأيام العصيبة، أن هيئاته الداخلية تستند إلى معايير العمل المؤسسي، والقيادة الجماعية، وأبرز مثال على ذلك "مجلس شورى الحزب"، وهو أعلى هيئة قيادية، ويمثل المرجعية السياسية، التنظيمية، والأمنية، المعنية باختيار القيادات العليا، ورسم السياسات الاستراتيجية، واتخاذ القرارات المصيرية.
يتألف مجلس شورى الحزب من 7-9 أعضاء في الغالب، خمسة منهم يترأسون المجالس التنظيمية الأساسية التي تعدّ بمثابة الوزارات وهي المجلس التنفيذي، المجلس الجهادي، المجلس السياسي، المجلس القضائي، ومجلس العمل النيابي[11]. ويشتغل المجلس بأعلى درجات السرية والتكتم، وأغلب أعضائه غير معروفين للعامة، وهذا ما ساعده على التواصل وعقد الاجتماعات في أحلك الظروف.
وبالإضافة إلى إعادة البناء الداخلي تواجه الحزب وحاضنته الشعبية تحديات اجتماعية واقتصادية جمة، نتيجة الدمار الهائل الذي تعرضت له القرى في جنوب لبنان، وفي مناطق لبنانية عدة، بالإضافة إلى الضاحية الجنوبية للعاصمة بيروت.
لكن على العكس من حرب 2006، لا تتوافر اليوم العوامل الداخلية والخارجية، التي تساعد الحزب على تحريك عملية إعادة الإعمار على النحو الوطني، خاصة مع التوجه الرسمي المعلن نحو ربط ملف إعادة الإعمار بسلاح المقاومة، وهذا ما يرفضه حزب الله ويحذر منه.
من جهة أخرى، يحتاج الحزب إلى إعادة النظر في تحالفاته السياسية، خاصة أن الفجوة غدت كبيرة جدا بين الحزب والتيار الوطني الحر. فقد أدلى رئيس "التيار الوطني الحر" النائب جبران باسيل بتصريحات سلبية أثناء معركة طوفان الأقصى، حيث قال إن الحرب القائمة بدأت بهجوم "حزب الله" على إسرائيل لإسناد غزة، وهذا يعني أن الحزب قد أسقط عن لبنان حجة الدفاع عن النفس من وجهة نظر التيار. وعزز هذا الموقف بقوله: اختلفنا مع حزب الله بسبب الحرب الحالية، ولسنا اليوم في وضع تحالف معه[12]. وقد تجلت حالة الافتراق بين الحزب والتيار في مشاورات اختيار رئيس الجمهورية جوزيف عون القائد السابق للجيش، ورئيس الحكومة القاضي نواف سلام.
ومعروف أن تحالف حزب الله مع التيار الوطني الحر ذي القاعدة المسيحية المارونية قد منح المقاومة الإسلامية منذ 2006 الغطاء الوطني عابر الطوائف، الذي كان الحزب وما يزال بأمس الحاجة إليه.
لا يمكن فصل الأزمات السياسية الداخلية في لبنان عن التأثيرات الخارجية، ما يجعل الكثير من التحديات المنظورة أمام حزب الله رهن مسار المتغيرات الإقليمية، وعلى رأسها المفاوضات النووية الأمريكية الإيرانية، فوصول هذه المفاوضات إلى اتفاق معلن من شأنه أن ينعكس إيجاباً على أمن المنطقة ويخفف من الضغوط على حزب الله، والعكس صحيح.
كذلك فقد جاءت الرياح في سوريا ما بعد الأسد على غير ما يشتهي حزب الله، وهو ما جعل الحزب في مواجهة تهديدات أمنية وسياسية مضافة، خاصة أن معارضي الحزب على الساحة اللبنانية، يرون في هذا الحدث فرصة إستراتيجية في تغيير موازين القوى على المدى المنظور[13].
إن من شأن التقارب الإيراني مع أمريكا، بالتوازي مع المتغير الجديد في سوريا، أن يشكل صيرورة لإعادة بناء التحالفات على مستوى لبنان والمنطقة، ما يعني أن مستقبل الحزب مرتبط ارتباطاً عضوياً بالمشهد الواسع للجيوبوليتيك في منطقة غرب آسيا [14].
وفي إطار المشهد الإقليمي لا يبدو أن الانفتاح العربي الخليجي على لبنان يصب في مصلحة حزب الله، بله يضاعف من مأزق الحزب ويحد من مناوراته تجاه الضغوطات المتعلقة بسلاح المقاومة وملف إعادة الإعمار.
مسار التطبيع مع الكيان الصهيوني هو الآخر ضمن العوامل المؤثرة في مستقبل حزب الله، خاصة وأن الضغوط العربية قبل الأمريكية ستكون كبيرة على لبنان، في حال انضمت دول أخرى إلى "اتفاقات أبراهام" مثل السعودية وسوريا.
فوق ذلك يشكل عامل الوقت ضاغطا كبيرا على الحزب، الذي سيكون عليه اتخاذ قرارات صعبة ومحسوبة بدقة، خاصة أن عمر الحكومة الحالية ليس طويلا، فالانتخابات النيابية تطرق الأبواب، ومايو 2026 ليس بعيدا. ولأن نتائج هذه الانتخابات سترسم مستقبل التوازنات السياسية لصالح أو ضد حزب الله، فإن الحزب يحتاج إلى إعادة النظر في تحالفاته السياسية خاصة بعد خسارته للتحالف الاستراتيجي مع التيار الوطني الحر، كما أسلفنا.
لن تكون الانتخابات المقبلة سهلة بالنسبة للحزب وللثنائي الشيعي أيضا، فهناك تيارات معارضة وإن كانت غير منظمة، تحاول استثمار الضغوط الدولية والمحلية لإحداث خرق في المعادلة الشيعية التقليدية، وكذلك الأمر بالنسبة للطائفة السنية، وتيار المستقبل، الذي يسعى إلى استعادة زمام المبادرة في رئاسة الحكومة، بالاستفادة من كل هذه المتغيرات[15].
وفي إطار تلاقي الأهداف والمصالح المشتركة، قد يكون على حزب الله بقيادته الجديدة العمل على نسج تحالف طويل المدى مع تيار المستقبل و" الحريرية السياسية "، ما قد يضمن للحزب تجاوز الضغوط الداخلية والخارجية والخروج من كل هذه التحديات بأقل خسارة ممكنة.
ونحن نستعرض ما سبق من تحديات صعبة، فإنها لا تقارن مع التحدي الأكبر الذي تركه غياب القائد الكبير لحزب الله وأمين عام الحزب السيد حسن نصر الله، فتلك التحديات في كفة، وتحدي ملء الفراغ القيادي الكبير في كفة أخرى.
لقد ارتبط حزب الله باسم أمينه العام، بقيادته، وشعبيته الكاريزمية، وبدوره المحوري داخل وخارج لبنان لأكثر من 30 عاما، سطر خلالها الحزب انتصارات مدوية في مواجهة الكيان الصهيوني، وفي الاشتباك المباشر مع المشروع الصهيوأمريكي بالمنطقة، إذ تمكن الحزب من تحرير جنوب لبنان في العام 2000، كما أنجز انتصارا استراتيجيا في حرب أغسطس 2006، وفرض معادلة ردع مع إسرائيل لأكثر من 18 عاما، وأعاد بذلك الاعتبار للمقاومة الشعبية والمسلحة في مواجهة عدو لا يعترف سوى بلغة القوة.
وطوال هذه الفترة غدا الحزب الرقم الصعب في المعادلتين السياسية والأمنية داخل لبنان، وامتد تأثير الحزب وشعبية أمينه العام إلى فضاءات إقليمية ودولية لم تقتصر على جبهة وساحات المقاومة. وهذا يعني أن غياب نصر الله ترك أثراً كبيرا على مستوى محور المقاومة ككل. وقد شكلت عملية اغتيال نصر الله نقطة تحول فاصلة في لبنان وسوريا، ومدخلا لاستكمال "مشروع الشرق الأوسط الجديد". ولا عجب فقد كان للشهيد القائد حضور طاغٍ ووزن كبير بسبب حكمته، وشجاعته، وحنكة إدارته للأمور، إضافة إلى مصداقيته العالية، حتى لدى جمهور عريض من الصهاينة أنفسهم[16].
أما على مستوى بيئة المقاومة، فقد وقع خبر اغتيال نصر الله كالصاعقة على الجميع، بل إن البعض كابر ورفض الاعتراف بهذه الحقيقة المؤلمة، لدرجة أن قيادات وازنة في حزب الله، اضطرت للظهور والتوضيح، عبر وسائط التواصل الاجتماعي.
من داخل هذه البيئة، عبر رئيس مجلس النواب نبيه برى عن أليم الفقد في رجل قال إن كل الكلمات تعجز عن وصف حبه للوطن، مضيفا: كل الكلمات التي يمكن أن تقال في وداعك تبقى قاصرة أمام قامتك وعمامتك، كل الكلمات التي يمكن أن تقال في وداعك أصغر من هامتك التي لم تنحن إلا لله عز وجل.
فيما علق الزعيم المسيحي سليمان فرنجية على اغتيال نصر الله بمنشور مقتضب على منصة إكس، لكنه عميق الدلالات: "رحل الرمز وولدت الأسطورة وتستمر المقاومة."
وفي إطار جبهة المقاومة، لكن من خارج لبنان عبرت هيئات وقيادات سياسية وعلمائية وحزبية عن عظيم خسارة الأمة والمقاومة في شخصية بحجم وتاريخ ورمزية حسن نصر الله، ومما قاله المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية الإيرانية السيد علي خامنئي في رثاء الفقيد: لقد فقد العالم الإسلامي شخصية عظيمة، وفقدت جبهة المقاومة رافع راية بارز، وفقد حزب الله في لبنان قائدًا قلّ نظيره، لكن بركات تدبيره وجهاده على مرّ عشرات الأعوام لن تنتهي أبدًا. إنّ الأساس الذي أرساه في لبنان، ووجّه من خلاله سائر مراكز المقاومة، لن يزول بغيابه فحسب، بل سيزداد قوّةً وصلابة ببركة دمائه ودماء سائر الشهداء.
كذلك صدرت البيانات والمواقف عن أنصار الله والسيد القائد عبدالملك الحوثي، الذي قال في خطاب التعزية أن الشهيد نصر الله قد رحل إلى جوار ربه بعد مسيرةٍ عظيمةٍ من الجهاد في سبيل الله تعالى، بذل فيها جهده، وعمره، وكل طاقته وقدراته، لله وفي سبيل الله، نجماً مضيئاً في سماء المجاهدين، وقائداً عظيماً، ومباركاً وموفَّقاً، حاملاً لراية الإسلام والجهاد، ومجسِّداً لقيم الإسلام وأخلاقه، وعزيزاً شامخاً، ثابتاً صابراً، شجاعاً أبياً، مخلصاً، وصادقاً، وناصحاً، وأميناً، ووفياً، عرفه بذلك العدو والصديق، والمحب والمبغض، وقد حقق الله على يديه، وبجهده وجهد وأيدي رفاقه في حزب الله، الإنجازات العظيمة، والانتصارات الكبيرة، والنقلات المهمة، إلى سماء المجد والعزة " .
كذلك نعت حركة حماس على لسان نائب رئيس المكتب السياسي خليل الحية الشهيد نصر الله، بالقول: "اليوم تمتزج دماء الشهيد القائد حسن نصر الله مع دماء الشهيد القائد إسماعيل هنية ودماء الشهيد القائد صالح العاروري، ودماء عشرات الآلاف من شهداء فلسطين ولبنان ودماء شهداء الأمة في معركة طوفان الأقصى على طريق تحرير القدس والمسجد الأقصى المبارك". وقال الحية: " لقد قضى السيد نصر الله شهيدا بعد حياة حافلة بالتضحية والمقاومة استشهد فيها نجله وأحباؤه، وما وهن يوما، بل واصل العمل في كل الميادين دفاعا عن كرامة هذه الأمة وسيادتها، وفي القلب منها القدس والمسجد الأقصى المبارك، حتى نال ما يتمناه الأحرار والشرفاء باستشهاده على طريق ذات الشوكة ".
حركة الجهاد الإسلامي عبرت عن اعتزازها بدور حزب الله ونصر الله بالقول: إنه لفخر كبير لسماحة السيد حسن نصر أن يستشهد مقبلا غير مدبر، في موقف إسناد ونصرة لشعبنا الفلسطيني، عزّ نظيره، في وقت تتساقط فيه أنظمة ودول في فخ الاستسلام أمام العدو تحت مسمى التطبيع، إن قامة عملاقة بحجم سماحة السيد حسن نصر الله لا يليق بها سوى الشهادة على طريق القدس.
وقالت الحركة في بيان النعي: إننا إذ نشعر بألم الفراق ومرارته، وبفداحة فقدان هامة عربية وإسلامية مقاومة، اختطت طريق النصر للأمة، فإننا في الوقت ذاته نشعر بالفخر بإرثه المبارك بعشرات الآلاف من المجاهدين والكوادر والقادة الذين تربوا على نهج سماحته، على طريق الشهادة وفلسطين.
وما هذه الكلمات إلا فيض من غيض مئات البيانات والمقالات والمنشورات التي علقت على خبر الفاجعة الكبير باستشهاد رمز من رموز الأمة الإسلامية الذين قلّ أن جاد بهم الزمان. وسيبقى ذكر نصر الله ومآثره في الخالدين إلى ما شاء الله.
صنعاء 25 مايو 2025
المصادر والهوامش
[1] - إسراء سيد: احتلال تحت ستار الهدنة: إسرائيل ومماطلة الانسحاب من تلال لبنان الخمسة، موقع نون بوست 16-2-2015
https://www.noonpost.com/293319/
[2] - انظر الرابط: https://almanar.com.lb/13411048
[3] - وكالة أنباء الأناضول
[5] - الكلمة الكاملة للأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم في 28-04-2025، موقع قناة المنار
https://www.almanar.com.lb/13419342
[6] - الجزيرة نت، الدوحة
[7] - الوكالة الوطنية للإعلام، بيروت 17-5-2025
[8] - موقع العهد الإخباري، بيروت
[9] - المصدر نفسه
[10] - انظر على سبيل المثال، ديفيد شينكر: ليس هناك وقت أفضل لنزع سلاح "حزب الله"، معهد واشنطن للدراسات
https://www.washingtoninstitute.org/ar/policy-analysis/lys-hnak-wqt-afdl-lnz-slah-hzb-allh
[11] - إليسار كرم: حزب الله بعد حرب 2024.. تحوّلات القيادة وتحديات الدور الإقليمي وسؤال المصير، موقع عربي 21
[12] - تصريحات في الأصل لتلفزيون " العربية "، ونشرت صحيفة النهار اللبنانية ملخصا لها، على الرابط
صهيب جوهر، محمد السعيد: الرابحون والخاسرون في لبنان بعد سقوط الأسد، الجزيرة نت
مايكل يونغ: حزب الله والتجدد الوطني، مركز كارينجي للشرق الأوسط
https://carnegieendowment.org/middle-east/diwan/2025/02/hezbollah-and-national-renewal?lang=ar
[14] - محمد الرميحي: مستقبل "حزب الله" في لبنان والإقليم، صحيفة النهار اللبنانية
[15] - زكريا الغول: الانتخابات النيابية اللبنانية لعام 2026: معركة مفصلية لرسم التوازنات السياسية والطائفية، صحيفة اللواء، بيروت
[16] - هاني المصري، اغتيال نصر الله نقطة فاصلة، موقع عرب 48