Logo dark


دروس من الحرب الروسية الظافرة ... نموذج القيادة والإدارة بين روسيا القيصر وفرنسا النابليونية .. الجزء الأول

( مُفكر ومحلل استراتيجي وسياسي – رئيس تحضيرية الاشتراكي اليمني (ضد العدوان) , )

أسرار الظفر والانتصار: القوة الذاتية والدهاء الحربي للقائد ووعي الروح القومية ووحدة القيصر والفلاحين القوزاق وحب حرية روسيا الجنوني

...................

ترينا التجربة الروسية خلال القرن التاسع عشر ثم العشرين، مثالاً قوياً على أن دهاء قيادة الحرب العدوانية وذكاء قيادتها الميدانية كلما كانت عالية كلما أصبح من الصعب تحقيق مكاسب على الأرض في مواجهتها، حتى ظهور قيادة أكثر منها دهاءً وحنكة، وذلك حين تكون قادرة على تصميم واختلاق نمط حرب جديدة من الطراز الذي لا يتوقعه العدو ولم يتصوره أو يستعد له في مواجهة جيش نظامي تقليدي.

والواقع يشير إلى أن عبقري الحروب الكبير وداهية المعارك الأسطوري نابوليون بونابرت، لم يخسر الحرب إلا عندما واجه قيادات أشد دهاءً منه قادرة على إدراك خبراته وتكتيكاته والتنبؤ بنواياه وتحركاته القادمة وتحديد نقاط قوته وضعفه، وممارسة أساليب حرب يكون فيها العدو غير مؤهل لخوضها والمشاركة فيها، وسحبه إلى مناطق حرب لا تتفق وتنظيمه، مع توظيف الأرض والمناخ والسكان ضد العدو.

الأول كان الجنرال البريطاني البحري –ولينجتون – الذي نظم على نابوليون في أسبانيا حرب عصابات محلية جبلية واسعة من قبل السكان الأسبان وتفجير الثورة التحررية الداخلية، وشن استنزافاً هائلاً للعدو الفرنسي بقوات قليلة التكاليف ومعتمدة على التموين الذاتي.

وأدى ذلك إلى تثبيت قوات فرنسية قوامها ربع مليون جندي فرنسي للحفاظ على النفوذ الفرنسي هناك، بينما فقد في تلك العمليات الاستنزافية حوالي 60 ألف جندي. وتتالياً حتى اضطر نابليون لسحب المزيد من قوات المواجهة الرئيسية في أوروبا الأمر الذي أحدث اهتزازاً في ميزان القوى هناك. ثم في أسبانيا اضطر كذلك إلى توزيع 80 ألف جندي على الطرقات لحراستها على طول الخطوط الخلفية لمنع الالتفافات والضربات الخلفية والجانية، ودون جدوى.

وبعد عدة سنوات من المقاومة الإسبانية، اضطر نابليون إلى الانسحاب من أسبانيا وتركها.

أما الشق الأهم في المعركة فكان في الحرب مع روسيا عام 1812م، حيث لم يخرج جيشه الكبير منها أبداً، وكانت مؤشراً لنهايته ولسقوط إمبراطوريته الدولية التي كانت تغطي القارة الأوروبية من أقصاها إلى أقصاها.

غرور القيادة يقود إلى ارتياد مسارات خطرة

كانت روسيا القديمة تملك ميزة عدالة قضيتها حين تعرضت للغزو الفرنسي بجيش قوامه نصف مليون جندي مسلح بأحدث الأسلحة حينها، وهو الأكثر تنظيماً وقوة، فهو الجيش الذي قهر أوروبا وإمبراطورياتها بالكامل. وكان كبار جنرالاتها مستعدين برضى لتعلم فنون وقواعد الحرب الجديدة التي أتى بها نابلوين، ليفهموا كيف تتم هزائمهم وبأي الطرق، وهم الأكثر عدداً وعده وعلى أراضيهم وبين شعوبهم!

كان هذا الجيش الكبير قد قرر احتلال روسيا القيصر فيحقق أحلامه الإمبراطورية ويحطم القوى التي تهدد سيطرته الأوروبية بتحالفها مع بريطانيا، العدو اللدود له ومنافسه على السيطرة على القارة وصاحبة السيطرة على البحر.

في روسيا، برغم وجود قائد للجيش كان القيصر هو من يقود الجيش –كطاغية متغطرس- ويهيمن بشكل مباشر على القيادة. وكانت نقطة الضعف التي استغلها نابوليون جيداً هي تعجله للمعركة وعلى مناطق قريبة من الحدود الروسية واستمرار التنظيم العسكري التقليدي.

بينما كان القائد العام كوتسوف يرى عدم المواجهة على الحدود، وظل يتراجع أمامه طويلاً حتى شارف على موسكو على مسافة ألف ميل من الحدود الروسية.

تحليل الحروب النابليونية .. الفكر العسكري النقدي .. قاعدة النصر

كان إلى جانب المارشيل كوتوسيف، الجنرال الألماني كارل كلاوفيتش -فيلسوف الحرب الحديثة- يواصل رصد معارك نابوليون ودراستها وتحليلها لمعرفة أسباب عوامل انتصاراته وأسباب هزائم الملوك الأوروبيين أمامه -وقد أصدر نتائج أبحاثه في محاضرات تعليمية قدمها لولي عهد بلاده الأمير غليوم الثاني الذي كان مسؤولاً عن تعليمه العسكري- وبعدها أصدرت في كتاب أسماه (الوجيز في الحرب) أشهر كتب الحرب في العصر الحديث وأكثرها أهمية- وقد وضع تلك التحليلات والخبرات الفكرية الحربية تحت تصرف القيادة الروسية وساعدتها في رسم الاستراتيجية المضادة لنابوليون وهزيمته وإقناع القيصر بخطورة الأسلوب الحربي القديم الذي يتبعه.

ولم يكن كوتسوف حراً بما فيه الكفاية في ممارسة واجباته القيادية وفقاً لتقديراته الموضوعية ومعرفته، وإنما كان القيصر الروسي كحاكم أعلى دائم التدخل في توجيه الحرب وكان مازال تقليدياً في الفكر العسكري لا يتزحزح عن الطريقة التقليدية في التنظيم والممارسة الحربية. وكان كوتسوف نتيجة خبراته في مواجهته نابوليون في أوروبا قد أدرك أن الطريقة الكلاسيكية في المواجهة مآلها هزيمة روسيا ووقوعها تحت الاحتلال الفرنسي النابليوني.

لم يفهم ولم يدرك القيصر الوقع العسكري الجديد الذي يمارسه نابليون. ونتيجة إصرار القيصر على ذلك -وهو ما كان يجيد نابوليون التعامل معها- لم يجد نابوليون صعوبة في هزيمته أمام أسوار موسكو العاصمة في معركة بوردينو الشهيرة ومخلفاً ثلاثين ألف قتيل من جند روسيا.

أخطاء الروس القاتلة

إن الخطأ الأول كان في اتباع الأسلوب القديم التقليدي في الحرب، والتي يجيدها نابليون باحتراف ويحفظ جيشه خطواتها وتسلسلها إلى نهايتها بدون تجديد. عرف نابليون كيف يستغل الثغرات جيداً الموجودة في التنظيمات والأساليب بعد دراستها جيداً ووجه إليها ضرباته وإلى محاورها ومفاصلها الحساسة بسرية بالغة.

والخطأ الثاني، يكمن في عدم فهم القيصر أن نابوليون لا يمكن هزيمته بالطريقة القديمة لكونه سيد الفن الحربي القائم ومبتدع أساليبه الجديدة، وبأن نقطة ضعفه هي في خطوط تموينه وفي اغترابه عن أرضه التي يقاتل عليها.

حرب الأشباح الشعبية

وقد أدرك متأخراً أهمية دروس الخسائر الفرنسية في حرب العصابات الإسبانية وبأن الطبيعة الروسية تخدم المواجهة بأفضل مما عليه إسبانيا. ووجدت القيادة الروسية أن الظروف مهيأة لخوض حروب جديدة.

تأكدوا أن كلما تقدم نابليون عميقا في الأرض الروسية كلما كان أضعف في تركيزه ويضطر إلى توزيع قوات أكبر على حماية الطرقات على مساحات جبهية طويلة جداً، تقدر من ألف إلى ألفين ميل وتطول كلما تقدم للأمام.

كانت فكرة ترك العدو يتوغل في العمق الترابي الوطني قبل الاجهاز عليه، فكرة خيالية غير مستوعبة آنذاك في العقلية العسكرية الوطنية. لقد اتضح لاحقاً أن هذا التعمق للعدو في العمق بعيداً عن حدوده وقواعده هي الطريقة الوحيدة للإجهاز عليه بعد توسعه وتشتيت قواته في السيطرة على المساحات التي احتلها.

والقاعدة الحربية الجديدة التي قدمها كوتسوف هي أن على الجيش الوطني الأضعف أمام الغازي أن يعيد تنظيم ذاته وفقاً لفرق (العصابات المغاويرية) الخفيفة الحركة وسهلة التخفي عن أنظار العدو، حفاظاً على المفاجأة الدائمة، مع تركيز توجيه الضربات إلى الجانب الإداري والتمويني والطرقات والحماية ومؤخراته ومجنباته.

في المراحل الأولى من الحرب، واصلت روسيا بناء قواتها الرئيسية في مأمن من هجماته وإطلاق حرب القوزاق والفلاحين الأهليين في كل مكان يمر فيه العدو وحرمانه من كل عون أو جدوى.

القائد كوتسوف ينقذ روسيا

لكن ميخائيل كوتسوف المارشال الروسي العظيم –الذي خلدته روائع الأدب الروسي ومنها رائعة ألكسي تولستوي: الحرب والسلام- كانت له آراء تجديدية في أسلوب وتكتيكات الحرب ضد نابوليون مستنداً إلى الخبرات التاريخية للحرب، وإلى العقلية التحليلية الفلسفية العلمية التي أضافها كلاوفيتش لجهاز روسيا الحربي. وهي إضافة لا تقدر بثمن أبداً من رجل عسكري واستراتيجي متواضع، وفيلسوف تحليلي رفيع الفكر ومن تلاميذ الفيلسوف الألماني هيجل.. وقد انضم القائد الألماني كلاوفيتش إلى جيش روسيا احتجاجاً على قرار ملكه الانضمام لنابليون بعد هزيمته على يده ورفضه مواصلة المواجهة.

ومما لا شك فيه، أن من أسوأ عيوب القادة هي الجمود والغرور والشعور بالامتلاء، فتلك مهلكات لا تتعايش مع القادة الحقيقيين. ومن أهم ما يميز القادة الاستراتيجيين هي العقلية التحليلية الفلسفية التي ترى بشموليات لا جزئيات ودوماً ما تبحث خلف ما هو ظاهر وأبعاد الأفعال والتحركات وتحاول جاهدة لاستجلاب كل التأويلات والآراء والمعطيات ودراستها. إن هذه هي عقلية فذة تستطيع الإبداع، ودوماً ما يجب أن تتميز القيادة على الإبداع والمقدرة على التجديد وتحفيز الطاقات وإلهام الأفكار.

الهزيمة يجب أن تعلم القيادة

لكن القيصر لم يستمع إلى نصائح قياداته إلا بعد أن كابد الهزيمة الكبيرة الأولى على أبواب موسكو العاصمة، فخلال فترة قصيرة من الزمن كان الجيش الروسي قد تشتت جراء الضربات المركزة على مفاصله، وحينها أسلم لقياداته زمام قيادة الحرب بكليتها...

ـــــــــــــــــــــــــ يتبع الجزء الثاني ــــــــــــــــــــــــــ

 

الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر المركز

مواضيع متعلقة