Logo dark


التطبيع مع الصهاينة: مفهومه وآلياته ومخاطره على النهوض العربي

( باحث , )

يُعرف المُفكر الفلسطيني  د.غازي الصوراني، التطبيع بأن جوهره: "إجبار الضحية على القبول بالأمر الواقع، واقع عبوديتها، ومعاونة الجلاد في استعبادها واستعباد غيرها من الضحايا. وهو مطلب إمبريالي صهيوني أساسي، وأداة أساسية من أدوات إسرائيل الكبرى".

ينطلق التطبيع من حيث هو آلية للسيطرة الاستعمارية (الامبريالية الصهيونية) وتعبيراً عن فلسفة العولمة، من أن الكيان الصهيوني هو "الكيان الطبيعي الوحيد في المنطقة"، والذي ينبغي الاحتذاء به، ومِن أن الوجود العربي ليس وجوداً قائماً في ذاته إنما يصبح وجوداً مشروعاً مادام مرتبطاً بالكيان الصهيوني عبر علاقات سياسية واقتصادية وثقافية وعلمية وأمنية... وفي هذه الفلسفة الامبريالية للتطبيع مع الكيان الصهيوني محو للوجود الإنساني والحضاري العربي الإسلامي، وتنازلاً عن حقوقه التاريخية، وكبحاً لتطوره وتقدمه المستقلين. واعترافاً "بحق" الكيان الصهيوني في بناء المستوطنات وتهجير الفلسطينيين...الخ والجرائم والانتهاكات الاستعمارية.  

مراحل التطبيع مع الكيان الصهيوني وآلياته

مر التطبيع مع الكيان الصهيوني بمرحلتين، المرحلة الأولى: توجه فيها الصهاينة نحو التطبيع مع الأنظمة والحكومات، والمرحة الثانية: - الحالية - توجهت نحو تطبيع الذهنية العربية الاسلامية والمجتمعات، وهذه المرحلة أشد خطراً من السابقة؛ فمع تطبيع الحكومات والزعامات، ظل هناك صوت شعبي عربي واسع مناوئ للتطبيع. ولذا تكمن الخطورة الحقيقية حين يتقبل المجتمع التطبيع والانخراط في المشاريع الصهيونية. لكن المطمئن هو أنه حتى لو طبع جيل مُعين، إلا أن الممارسة الاستعمارية الامبريالية الصهيونية ستولد قناعات مناوئة للتطبيع في ذات الجيل وفي أجيال قادمة، من حيث أن التطبيع مع الصهاينة لا ينحصر في إحداث تغيرات في حقل الفكر والذهن والقناعات، بل إن الوجود الصهيوني موجود في واقع التاريخ في ممارسة استغلال وتوحش واستيطان وهيمنة، متناقضة مع مصالح المجتمعات العربية الاسلامية.   

وإذا ما عدنا إلى التاريخ نجد بأن المُستعمر البريطاني الذي زرع الكيان الصهيوني لم ينسحب من المنطقة العربية إلا بعد تحقيق أمرين، أولهما: الابقاء تفوق اليهود في فلسطين على العرب، والثاني ترك قوى عربية عميلة للاستعمار وربطها بالوجود الصهيوني كمشيخات الخليج والأردن، ورغم انتقال الكيان الصهيوني من الرعاية البريطانية إلى الرعاية الأمريكية إلا أنه تم الابقاء على ذات الرؤية البريطانية المتعلقة بتقوية مواقع الكيان الصهيوني على حساب الوجود العربي، وهكذا فقد استخدم الصهاينة هذه الامكانيات لقهر العرب وفرض التطبيع عبر آليتين، التعامل مع زعماء عرب متنصلون عن قضايا أمتهم وإقامة اتفاقيات تطبيع معهم، والآلية الثانية إلحاق الصهاينة هزائم عسكرية بالعرب - بدعم أمريكي مباشر -  تؤدي إلى إحباطات متراكمة وترسخ فكرة الاستسلام في الذهنية العربية.

التطبيع السياسي الاقتصادي

كان الانتصار السياسي الكبير للكيان الصهيوني في مسار التطبيع السياسي هو اتفاق أوسلو (13 سبتمبر 1993) الذي بموجبه اعترفت منظمة التحرير الفلسطينية بالوجود الصهيوني على أجزاء من الأراضي الفلسطينية. وما كان له أن ينجح لو لم يُسبق باتفاق كامب ديفيد (17 سبتمبر 1978) مع السادات، ووادي عربة (26 أكتوبر 1994) مع حسين الأردن.

رَسمت اتفاقيات التطبيع السابقة، حدوداً أمنة مع العدو الصهيوني واعترافاً بحقه في الوجود، واعترافاً بتفوقه، وربطت كل من السلطة الفلسطينية ومصر والأردن بعلاقات اقتصادية أمنية مع الكيان الصهيوني، لتصبح هذه الدول طوقاً لحماية الكيان الصهيوني بعد أن كانت فيما سبق مناطق عربية مفتوحة للنشاط المقاوم للاستعمار والصهيونية.

وقد تمثلت سياسية العدو الصهيوني بالتطبيع الاقتصادي، في تخصص الكيان الصهيوني في إنتاج السلع التكنولوجية والمتقدمة، وتصريف بضائعه إلى المجتمع العربي كسوق استهلاكية واسعة، وكذا استغلال اليد العاملة الفلسطينية والعربية عموماً وامتصاص الثروات النفطية والغازية واحتياطات رؤوس الأموال العربية والخليجية ليصبح الكيان الصهيوني قطباً إمبريالياً في المنطقة.

التطبيع التربوي الثقافي الإعلامي

يعتبر التطبيع والإخضاع الثقافي دعامة هامة للتغلغل الصهيوني في المنطقة العربية، لأنه أعمق وأكثر فاعلية، ولا يستثير موقفاً دفاعياً كحروب الإخضاع العسكرية،

يرتكز هذا التطبيع على تغيير المناهج التعليمية بمحو كل ما له علاقة بالقضية الفلسطينية. وعلى المستوى الثقافي يرتكز على تنظيرات المثقفين اللبراليين الذين يسوقون للكيان الصهيوني ككيان "ديمقراطي متقدم" ويدعون إلى التعايش معه، ومن منطلق الحداثة والعلمانية يصورون الصراع مع الكيان الصهيوني كصراع ديني بدائي غير مبرر يجب الترفع عنه، منكرين الحقيقة المادية لاستعمارية الكيان الصهيوني ودوره في المنطقة. وعلى المستوى الاعلامي يقوم هذا التطبيع بدعوى المهنية بتهذيب المصطلحات والمفاهيم المتعلقة بالقضية والمرتبطة بالصراع وتبديلها بمفاهيم أُخرى. وهذا التغلغل إلى ذهنية المجتمع العربي يهدف لقبول العدو في المنطقة وهو ما يفسر عدم ردود الأفعال في الشارع العربي مضادة لحركة التطبيع الخليجية العلنية مؤخراً.

التطبيع الثقافي الذي يعتبر أشد أشكال التطبيع خطورة يرمي إلى فتح العقول والقلوب أمام الاختراق الصهيوني الذي يوظف وسائل الإعلام والإصدارات والكتابات والأعمال الأدبية والمنتديات العلمية والثقافية وملتقيات حوار الأديان والثقافات والحضارات، في خدمة الوجود الصهيوني، ويبرز هذا التطبيع في شكل تعاون بين الجامعات، والملتقيات الفنية أوعن طريق استقطاب بعض الجمعيات أو الجماعات، من أجل قبول واقع الوجود الصهيوني، وإضعاف الانتماء القومي والشعور الوطني الإسلامي وحتى المسيحي العربي، حيث حاول الصهاينة في ثمانينات القرن الماضي استقطاب بعض المسيحيين في لبنان للقتال إلى جانب الاستعمار.

وفي هذا البُعد الثقافي لعبت وسائل التواصل الاجتماعية دوراً خطيراً في عملية تطبيع الذهن، حيث أصبح المجاهرة بمودة الصهاينة أمراً إعتيادياً، بل دخل الصهاينة بصفحات ناطقة باللغة العربية تتلقى آلاف الإعجابات من الناشطين العرب!

 ويهدف التطبيع الثقافي إلى إعادة كتابة التاريخ الحضاري للمنطقة العربية، عبر تزييف الحقائق والبديهيات التاريخية المتعلقة بالطريقة الاستعمارية الاستيطانية التي زرع فيها الكيان الصهيوني في الوطن العربي. كذا التوقف عن تدريس الأدبيات والوثائق والنصوص المعادية للكيان الصهيوني واليهود، بما في ذلك الآيات القرآنية. كما يهدف أيضاً إلى أن تصبح الجامعات ومراكز الأبحاث الصهيونية هي المرجعية المعرفية للمنطقة، وكذلك يستهدف إعادة صياغة المفاهيم ومناهج التفكير، بما ينسجم مع المتغيرات الإقليمية والدولية، وإعادة النظر في الكثير من قضايا التاريخ العربي.

حرب المصطلحات

تبرز حرب المصطلح كجزء من وسائل التطبيع الاعلامية التربوية الثقافية، ومهمة هذه الحرب في إيقاعها البطيء المستمر، تغيير التصورات والقناعات عن طبيعة الصراع مع الكيان الصهيوني وعن جوهر طبيعة القضية. وعلى سبيل المثال تبرز في الاعلام العربي مفاهيم: "دولة الاحتلال" بديلة عن كيان الاحتلال وتطور المفهوم إلى "دولة إسرائيل" وفي ذلك اعتراف بالكيان الصهيوني. ونادراً ما نعد نسمع في الأخبار مفهوم قوات الاحتلال الصهيوني. كما ظهر مفهوم "النزاع مع إسرائيل" بديلاً عن مفهوم الصراع مع الكيان الصهيوني، حيث يتم تصوير الصراع بأبعاده المختلفة كمجرد "نزاع حدودي بين دولتين جارتين"، كما يتم استبدال مفهوم الأسير وما يتعلق بالمفهوم من حقوق قانونية وبعد قضية إلى مفهوم "المُعتقل" والمعتقل هو الشخص الذي يُعاقب على ارتكابه جريمة فتبدو "إسرائيل" هي الحاكم والفلسطينيين مجرمين فتقوم باعتقالهم ومحاكمتهم، فيما حقيقة الأمر أنهم أسرى وتم إلقاءهم خلف القضبان الصهيونية على إثر نشاط مقاوم للاستيطان والعدوان العسكري...الخ المصطلحات والمفاهيم.

أزمات المنطقة وداعش ودورها في تطبيع الذهن العام

لعبت الأنظمة السياسية - السابقة للربيع العربي - دوراً في صرف الاهتمام الشعبي عن القضية الفلسطينية، فهي من حيث الأصل كانت مطبعة مع الصهاينة وضد كل خطاب مقاوم ضد أمريكا وإسرائيل وضد كل نشاط انتاجي وطني خارج مفاهيم منظمة التجارة العالمية وصناديق الاقراض الامبريالية، وفي ممارستها السلطوية أشغلت هذه الأنظمة مجتمعاتها بأزماتها الداخلية وغدا أكبر هم المواطن تأمين احتياجاته الحيوية من الطعام والشراب والسكن، ليغدو الحديث عن قضية كبرى ضد الصهاينة نوعاً من الهزلية ومثاراً للتندر نظراً لما تعانيه هذه الشعوب من أزمات خانقة.

مجيء الربيع العربي والثورات الشعبية، كان جزء من هذه اليقظة الوطنية يقظة قومية متعلقة بالصراع مع الصهاينة بأفقه الواسع، إلا أن القوى المضادة للثورة وتسلق "الإخوان المسلمين" على الثورات في اليمن وليبيا وتونس ومصر والتآمر على سوريا، وما أنتجته هذه العملية من تدهور مجتمعي وزعزعة أمنية وانعدام استقرار سياسي، كل هذه الحيثيات أعادت الوعي والاهتمام الاجتماعي إلى الطور الأول وهو الاهتمام بالأمن والمعيشة والتخلي عن الاهتمام بالقضايا الكبرى، باستثناء اليمن حيث استطاعت ثورة 21 سبتمبر أن تربط قضية التغيير الاجتماعي وقضية مقاومة العدوان بالقضية الفلسطينية.

بل إن هذا التدهور الاجتماعي والصراع الذي صُبغ بصبغات طائفية جعل الاستقطاب والانقسامات بينية فخرج الصهاينة من دائرة الصراع بل وأصبحوا حلفاء لبعض هذه القوى الاجتماعية العربية الاسلامية ضد بعضها، وقد برز ذلك بشكل كبير في تأمين الكيان الصهيوني مستشفيات ميدانية للجماعات المسلحة الإرهابية المقاتلة ضد الدولة السورية.

لعبت الجماعات الارهابية دوراً في عملية التطبيع، وبشكل أدق لعب الخطاب الاعلامي والتسويق الإعلامي الموجه لجرائم الجماعات الارهابية دوراً في غسل الجرائم الصهيونية، فبعدما كانت مجزرة "دير ياسين"، أو "كفر قاسم"، محفورة في الذهنية العربية - رغم أن ضحاياها بالعشرات - جاءت داعش لترتكب مجازر بحق المئات والآلاف من المواطنين في العراق وسوريا وليبيا وغيرها، وكان الإخراج الفني الهوليودي لهذه المجازر والتسويق الاعلامي عبر قنوات "العربية" و"الجزيرة" و"اسكاي نيوز العربية" وغيرها، عمل هذه التسويق على زعزعة التصور العربي عن صورة الإجرام ليدخل إلى الذهنية العامة تصور بأن "إسرائيل أرحم من داعش".  

صناعة العدو البديل

بعد انتصار الثورة الاسلامية في إيران (سنة 1979) بدأ خطاب الدول العربية المطبعة مع الكيان الصهيوني بتوجيه العداء نحو هذه الدولة التي أعلنت العداء مع الكيان الصهيوني، وهكذا على مدار أربعة عقود من انتصار الثورة في إيران، تم اختلاق عدو وهمي بديل للعرب هو "العدو الايراني الفارسي"، وبديلاً عن العدو اليهودي " العدو المجوسي الشيعي". وطوال هذه العقود تم اختلاق هذا العدو المتوهم وتضخيم خطره. وفي كل مرحة من هذه المراحل استطاعت السعودية - بما هي كيان وظيفي للامبريالية - أن تستقطب إلى جانبها دولاً عربية للاصطفاف ضد إيران من الدول التي عرفت لاحقاً باسم "دول الاعتدال"، إلى أن انتهى الأمر بالاعتراف الصهيوني والخليجي بأن "إيران عدو مشترك" لهذا الحلف. فيما في حقيقة الأمر أن الجمهورية الاسلامية الايرانية هي الداعم الأول لحركات المقاومة العربية الإسلامية في لبنان وفلسطين بمختلف مذاهبها الاسلامية.

 لقد استطاع الصهاينة عبر دول الخليج توجيه الصراع العربي الاسلامي من صراع ضد الاحتلال اليهودي الصهيوني إلى "صراع عربي فارسي، وسني شيعي". وقد عمل رجال الدين ومؤسساته "هيئة علماء المسلمين"، الأزهر الشريف، "هيئة علماء السعودية"، على الدفع في بالخطاب الاسلامي ضد "خطر الشيعة"، فيما أصدروا الخطابات المهادنة لليهودية، ومؤتمرات "حوار الاديان" الذي يجعل من الوجود الاسرائيلي وجوداً ثقافياً يهودياً تعبدياً، لا وجوداً استعمارياً إمبريالياً صهيونياً عنصرياً.  (ملاحظة: لم ينخرط الأزهر الشريف في التحريض ضد الشيعة، لكنه دفع بالحوار مع اليهودية متجاهلها أولوية قضية حل التوترات المذهبية الاسلامية). 

الاختزال المتدرج للقضية

منذ مطلع الثمانينات، جرى اختزال قضية حركة التحرر الوطنية العربية والتي كانت جزءاً من حركة الثورة العالمية، إلى صراع "عربي إسرائيلي"؛ ففي بادئ الأمر كانت قضية الصراع مع الكيان الصهيوني متعلقة بصرع الشعوب المُستعمرة وشبه المُستعمرة ضد الاستعمار الامبريالي الصهيوني، وليس أوضح دليل على ذلك مشاركة الشيوعيين اليابانيين بالقتال بجانب رفاقهم العرب والفلسطينيين، كما تلقت حركة المقاومة الفلسطينية دعماً وتدريباً من كوبا والاتحاد السوفياتي وغيرها من الدول الاشتراكية، لكن هذا الأفق الأممي الإنساني للصراع تم تجزئته وتحويل الصراع إلى صراع "عربي اسرائيلي" كصراع قومي، ورغم سعة هذا المفهوم الذي يجمع العرب كلهم ضد الصهاينة، إلا أنه تم تجزئة هذا المفهوم والانتقال إلى الحديث عن الصراع "الفلسطيني الاسرائيلي"، ومن بعد التنازلات التي قدمتها السلطة الفلسطينية للصهاينة، تحول المفهوم والخطاب إلى "حرب إسرائيل على قطاع غزة" الفلسطيني، بل عملت وسائل الاعلام كـ "العربية" و"الجزيرة" إلى اختزال غزة إلى حركة حماس ليتحول الصراع - الذي بدأ أممياً انسانياً - إلى "صراع إسرائيل مع حركة حماس"!!! وتجاهل بقية قوى المقاومة كالجبهتين الشعبية والديمقراطية والجهاد الاسلامي وجبهة النضال الشعبي وكتائب الأقصى وغيرها، وانتهى الامر باعتبار بعض الحكومات العربية المطبعة حركة حماس "حركة إرهابية"!!! ليتم على الصعيد الفكري والنظري تصفية القضية الفلسطينية ذات الأبعاد الأممية والقومية وتحويلها إلى قضية أمنية لدى وزارة الداخلية للكيان الاحتلال، كقضية: "حرب إسرائيلية على الإرهاب في غزة".

مخاطر التطبيع على قضية التحرر الوطنية العربية

المخاطر على المستويات الثقافية والسياسية والاقتصادية

مخاطر التطبيع مع الكيان الصهيوني مرتبطة أشد الارتباط كما بينا في المقدمة بالرؤية الامبريالية والصهيونية للمنطقة ومستقبلها، ويلخص المفكر الفلسطيني الصوراني هذه الحقيقة بالقول: " العدو الصهيوني يسعى إلى فرض شرعية المحتل الغاصب علينا في فلسطين، وفرض نظام هيمنة العولمة الامبريالية على منطقتنا وتحويلها إلى عولمة مصغرة لمزيد من إخضاعها وتبعيتها وتخلفها. ولذلك فإن النضال ضد العدو الصهيوني لا يمكن أن يتقدم إلى الأمام إلا مرتبطاً بالنضال ضد النظام الامبريالي الرأسمالي.".

فحقيقة التطبيع والرغبة الصهيونية هي إخضاع الشعب الفلسطيني وشعوب المنطقة، وتتعدد مخاطر التطبيع بتعدد آلياته، لتصب في خطر واحد وهو خطر وجودي على الشعب العربي الاسلامي وجوده في المنطقة.

فعلى المستوى الثقافي تكمن خطورة التطبيع في أنه بسيطرة على روح الشعوب وعقولها وفكرها ووجدانها الذي يعد أسمى الأهداف الاستراتيجية لدى الاحتلال الصهيوني.

وعلى المستوى السياسي يلعب التطبيع دوراً مساهماً في بناء "الشرق الأوسط الكبير" الذي يقوده الكيان الصهيوني، وهو الهدف الذي تسعى إليه الولايات المتحدة الأمريكية والصهيونية منذ بدايات التطبيع ولا ينحصر دورها على فلسطين فحسب، بل يعم خطره كل شعوب المنطقة، فهو يُسلم بالتفوق الاستراتيجي للكيان الصهيوني اقتصادياً وعسكرياً ويعمل على محاصرة أي محاولة لمنافسة الكيان الصهيوني، بل إنّ المنافسة تصبح جريمة في نظر المطبعين.

على المستوى الاقتصادي - إضافة لما ذكرناه سابقاً في محور التطبيع الاقتصادي - نذكر بأن معاهدة أوسلو حققت فوائد مباشرة على المستوى الاقتصادي، تمثلت في تخفيف العبء الأمني والعسكري على الاقتصاد الصهيوني، مما يتيح له إعادة توجيه الموارد نحو رفع مستوى المعيشة، والتوسع الاستيطاني الاستعماري. وكذا زيادة الصادرات "الإسرائيلية" إلى دول كانت مغلقة أمام السلع الصهيونية سابقاً، ومنها عشرات الدول التي لم تكن تقيم العلاقات مع العدو الصهيوني قبل المعاهدات، وارتفاع معدلات السياحة إلى الكيان، وتدفق الاستثمارات الأجنبية المباشرة إلى دولة الكيان الصهيوني، ومجيء عشرات الشركات العابرة للحدود حاملة معها مليارات الدولارات والكثير من التكنولوجيا المتقدمة لتحويل الاقتصاد الصهيوني إلى اقتصاد مزدهر تكنولوجياً في التسعينات. وكذلك الحصول على مصادر طاقة مأمونة.

التطبيع ليس حلاً لأزمات المنطقة

كان مبرر تقارب الأنظمة العربية مع العدو الصهيوني هو "مصلحة الفلسطينيين" و"الدفع بعملية السلام"، والتوقف عن الحرب للاهتمام بالتنمية، إلا أن أياً من هذه الادعاءات والذرائع المُعلنة لم تتحقق، لأن الكيان الصهيوني استمر في سلوكه معبراً عن جوهره الاستعماري الامبريالي الصهيوني، معادياً للحقوق العربية، وكابحاً لتطور شعوب المنطقة، إمعاناً في إبقاء حالة التبعية. ووفق تحليل الصوراني لمفهوم التبعية، فإنه في ظروف العولمة الإمبريالية والصهيونية الراهنة يعني إلحاق مجمل التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي للدول الفقيرة أو ما كان يعرف بـ "العالم الثالث" أو البلدان المتخلفة عموماً وبلداننا العربية خصوصاً باقتصاد النظام الامبريالي المعولم، بما يحقق استمرار سيطرته على هذه البلدان، وديمومة تخلفها وإفقارها لضمان الاستيلاء على ثرواتها وفائض القيمة لشعوبها وإفشال نموها، بما يعني أن التبعية - وخاصة في ظل أنظمة الاستبداد والإسلام السياسي العميلة - تؤدي إلى تعطيل الإرادة الوطنية للدولة التابعة وفقدانها السيطرة على تطورها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي ... إلخ.

وفيما كان يُفترض بأن التطبيع مرتبطٌ بعملية السلام، نجد تسارع التطبيع العربي بقيادة السعودية ودول الخليج فيما ما تزال عملية الاستيطان اليهودية وسياسته العدوانية مُستمرة، ولا وجود لأي عملية سلام. فبعد مرور أكثر 25 عاماً على أوسلو، لم يحقق الفلسطينيون الاستقلال ولم يحصلوا على الدولة، بل تراجعوا إلى الوراء، وجاء الانقسام بين فتح وحماس في حزيران 2007 ليكرس الانقسام الفلسطيني، وفي هذا الوضع فإن الحديث عن التفاوض من أجل السلام – يعني تكريس الهيمنة والسيطرة الأمريكية الإسرائيلية، لأن الدولة الفعلية على الأرض هي دولة الكيان الصهيوني الاحتلالية، فيما ليس على الأرض دولة فلسطينية قائمة بل شبه إدارة ذاتيه في رام الله والضفة الغربية، وشبه دويلة في غزة.

التطبيع و يهودية الدولة

مما يؤسف له أن الهرولة نحو التطبيع تأتي مترافقة مع إعلان الكيان الصهيوني "إسرائيل دولة يهودية" واعتبار الكيان رسمياً "دولة يهودية" انقلاب على "عملية السلام" و على الطابع الدولي للاتفاقيات القائمة على مساواة الأطراف؛ فيهودية الدولة تعني واعتبار كل ما أخذه الصهاينة بالعدوان والاستيطان والمعاهدات والاتفاقيات الخيانية حقاً مشروعاً.

ويظل الاعتراف بيهودية الدولة الإسرائيلية، من أشد الاخطار التي تواجهها القضية العربية الفلسطينية في العصر الراهن، خاصة بعد توقيع مصر لمعاهدة "كامب ديفيد" وما تلاها من اعتراف بما يسمى دولة إسرائيل والتطبيع معها، وبعد اعتراف قيادة منظمة التحرير الفلسطينية "بدولة اسرائيل" وتوقيع اتفاق "أوسلو" ، وكذلك اعتراف النظام الأردني وتوقيعه على اتفاق "وادي عربة"، وما تلا هذه الاتفاقات من اعتراف وتطبيع سياسي واقتصادي من عدد من الدول العربية في الخليج العربي والمغرب، حيث أدى كل ذلك إلى تكريس استجابة النظام العربي للشروط الأمريكية الصهيونية.

وفي مثل هذه الاوضاع المأزومة، لم يعد مصطلح الدولة اليهودية مجرد تعريف ذاتي للإسرائيليين بحسب القانون الأساس الذي أصدره "الكنيست" في 1992 فحسب، بل صار مسألة دولية بعد خطاب الرئيس الأمريكي الأسبق "جورج بوش" في مؤتمر العقبة المنعقد في 4/3/2003م الذي شدد فيه جورج بوش على ضرورة الاعتراف بـ"يهودية الدولة"، ليصبح ذلك المطلب أو الشعار لدى الاوساط الصهيونية شرطاً لأي تسوية مع العرب، وهو الشِعار الذي يرفعه الرئيس الأمريكي الحالي دولاند ترامب. وخدمة للمشروع الصهيوني توحد اليمين الصهيوني المتطرف شبه العلماني أو العلماني إلى جانب السلفيين المتطرفين ليطالبوا بدولة يهودية لا بدولة ديموقراطية، في صورة تعكس عقلية القوة والغطرسة الصهيونية، بدعم صريح من الولايات المتحدة الأمريكية، الأمر الذي سيؤدي إلى أشكال جديدة من الصراع مع الشعب الفلسطيني وقواه الوطنية عموماً لما للاعتراف بـ"يهودية إسرائيل" من سلبيات على القضية الفلسطينية.

ان الاعتراف بدولة الكيان الصهيوني دولة يهودية يجعل قيام دولة "إسرائيل" أمراً مشروعاً وأخلاقياً؛ ويعني ان الفلسطينيين والعرب لا يعترفون بإسرائيل كأمر واقع، بل يعترفون بشرعيتها التاريخية، وهو يجعل المقاومة الفلسطينية منذ ما قبل قيام "إسرائيل" عام 1948 وبعد قيامها أمراً غير مشروع وغير أخلاقي، بل ويمكن أن توصف المقاومة الفلسطينية بأنها عمل ارهابي من وجهة نظر التحالف الإمبريالي الصهيوني وأدواته.

 أحرار العالم ضد الامبريالية والصهيونية

ان جوهر الصراع مع الوجود الصهيوني، هو الباقي مهما تغيرت المصطلحات والمفاهيم وتم تجزئة القضية الفلسطينية، وهذا الجوهر متناقض بشكل تام مع كل التوجهات نحو التطبيع، حيث نجد مقاطعة القوى الديمقراطية في أوروبا للكيان الصهيوني من منطلق كونه كياناً عنصرياً ودولة احتلال إجرامية، هذه المقاطعة تتجلى في سياسة مؤسسات ثقافية وشخصيات علمية وفنية وثقافية التي ترفض المشاركة في أي محفل يشارك به الصهاينة أو يدعون إليه.

وعلى المستوى الآخر، نجد مقاطعة واسعة من الدول ذات التوجه الاشتراكي، التي تنطلق في مقاطعتها للكيان الصهيوني من منطلق أنه أداة للاستعماري والامبريالية العالمية وخاصة في دول أمريكا اللاتينية. وجدير بالذكر أن منظمة فلاحية في الهند قوامها ملايين الفلاحين أعلنت مقاطعة الكيان الصهيوني على خلفية الاحتكارات الصهيونية في القطاع الزراعي في الهند.

إن اشكال المقاطعة هذه لشعوب وشخصيات ليست عربية ولا إسلامية، إنما يُعبر عن الجوهر في الصراع مع الكيان الصهيوني باعتباره كان عنصري إمبريالي، وجدير بالعرب أن يكونوا أولى بالمقاطعة لأن تهديدات الوجود الصهيوني تنصرف عليهم قبل غيرهم من شعوب الأرض.

الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر المركز

مواضيع متعلقة