تشكّل الجولة الثانية من العدوان الأمريكي على اليمن محطة استراتيجية كاشفة في مسار تصدع الهيمنة الأمريكية، وتقدم نموذجاً جديداً لتوازن القوة في مواجهة المركز الإمبريالي، عبر فاعل إقليمي محدود الموارد، نجح في فرض معادلة ردع وواقعية سياسية جديدة.
انطلقت العمليات العسكرية بعد إعلان الولايات المتحدة في 15 مارس 2025 بدء حملة "الفارس الخشن"، مستخدمة حاملتي الطائرات "ترومان" و"فنسون"، لتنفيذ ضربة ضد صنعاء. لكن وعلى خلاف التقديرات الأميركية، جاءت النتائج عكسية؛ حيث شنت القوات المسلحة اليمنية أكثر من 24 عملية هجومية على حاملات الطائرات والمدمرات والسفن اللوجستية الأميركية، منها الاشتباك 3 مرات مع اثنتين من حاملات الطائرات في البحرين الأحمر والعربي، وأجبرت "ترومان" على الانسحاب من مسرح العمليات. كما تم إسقاط 2 طائرة F/A-18، و7 طائرات MQ-9 Reaper، ما مثّل ضربة استخباراتية وعسكرية موجعة لواشنطن، وعطّل قدرتها على الاستطلاع وشنّ الهجمات الدقيقة.
سياسياً، تمكّنت صنعاء من فرض خطاب سيادي عالي النبرة، يربط بين السيادة الوطنية ودعم فلسطين، دون أن تنكسر تحت ضغط الغارات أو الحصار الإعلامي. أما الخطاب الأميركي، فقد تراجع من لهجة الردع إلى لغة التبرير، خاصة بعد فضيحة "سيغنال" التي كشفت عن ارتباك هيكلي داخل دوائر الأمن القومي الأميركي. وانتهت الجولة بتفاهم غير مباشر بوساطة عمانية، دون تحقق أي من الأهداف الأميركية المعلنة، في ظل استمرار الضربات اليمنية على "إسرائيل"، ما خلّف صدمة في المؤسسة الإسرائيلية، وفتح الباب لتحولات إقليمية واسعة.
استطاعت صنعاء رغم تواضع الإمكانات، فرض معادلة ردع إقليمي جديدة وكسر صورة الهيمنة الأمريكية في البحر الأحمر. شكلت هذه الجولة لحظة فارقة في انتقال اليمن من موقع الدفاع إلى موقع الفعل الاستراتيجي، سياسيًا وعسكريًا.
ومن المهم البناء على هذه الجولة لتحصين الردع الاستراتيجي، من خلال تطوير المنظومات الدفاعية، وتعزيز الجبهة السياسية الداخلية، وتحويل الإنجاز الميداني إلى مكسب سياسي تفاوضي دائم في مواجهة أي محاولات للضغط أو الالتفاف السياسي والدبلوماسي.
على الصعيد الدولي تظهر هذه الجولة باعتبارها أحد أبرز مؤشرات التحول نحو عالم متعدد الأقطاب، وتُقدم لروسيا والصين فرصة استراتيجية لمقاربة جديدة للحروب البحرية، بالتعامل مع التجربة اليمنية كرافعة لإعادة تشكيل التوازن البحري، وكساحة اختراق للنفوذ الأميركي.
تشكل الجولة الثانية من الحرب العدوانية الأمريكية على اليمن (مارس–مايو 2025) لحظة مفصلية لفهم طبيعة التحول الجاري في النظام الدولي، لا بوصفها صداماً عسكرياً تقليدياً بين قوة كبرى وطرف إقليمي محدود الموارد، بل كاشتباك رمزي ومادي بين مركز عالمي إمبريالي يسعى لإعادة تثبيت هيمنته، وأحد أطراف النظام الدولي الصاعدة التي تتحدى نظام الأحادية القطبية وتسعى لصون الاستقلال الوطني للبلد.
على مدى عقود، مثّلت الولايات المتحدة مركز النظام العالمي، حيث استقرت علاقة المركز بالأطراف على معادلة اقتصادية–سياسية–عسكرية غير متكافئة: يهيمن المركز، وتُقاد الأطراف، ويُعاد إنتاج التبعية من خلال أدوات الردع، والتحكم بالممرات الحيوية، والتهديد الدائم بالتدخل العسكري. إلا أن اليمن في هذه الجولة من الحرب مع الولايات المتحدة، كسر هذا النسق التقليدي، وفرض نفسه لا كلاعب متمرد فقط، بل كفاعل يكتب معادلاته الخاصة، ويغيّر من طبيعة العلاقة بين المركز والأطراف.
لقد جاءت "عملية الفارس الخشن" الأمريكية في سياق محاولة يائسة لإعادة تثبيت الردع في البحر الأحمر، واحتواء التأثير اليمني المتزايد على معادلات الأمن الإقليمي، لا سيما بعد أن باتت صنعاء طرفاً مؤثراً في معركة غزة، وعقدت المعادلة البحرية أمام السفن الأميركية والإسرائيلية على حدّ سواء. إلا أن نتائج الجولة، كما يكشفها هذا التقرير، لم تفضِ إلى استعادة الهيبة الأمريكية، بل كشفت عن انكشاف ميداني واستخباراتي أمريكي، قابلته فعالية يمنية في الردع، والسيطرة، وفرض التفاوض غير المباشر من موقع الندية لا من موقع التبعية.
سياسياً، لم يكن الرد اليمني مجرّد موقف من العدوان، بل بيان سيادي يعيد تعريف العلاقة مع المركز الإمبريالي، مستنداً إلى رؤية متماسكة ترى أن دعم فلسطين، ومواجهة الغطرسة البحرية، والدفاع عن المجال السيادي، هي مكونات عضوية لمشروع تحرر وطني- دولي، ويشترك مع مشاريع الاستقلال في إيران، ولبنان، والعراق، وفنزويلا، وغيرها من جبهات المقاومة العالمية.
إن هذا التقرير لا يرصد العمليات العسكرية وتحولاتها فحسب، بل يقرأ في سلوك صنعاء ملامح كسر حلقات التبعية التاريخية، ويُبرز كيف تسهم اليمن، رغم هشاشة بنيتها الاقتصادية، في تثبيت قواعد جديدة في النظام العالمي قيد التشكل. لقد بات البحر الأحمر من خلال هذه المواجهة أحد ميادين إعادة التوازن بين المركز والأطراف، وأحد شواهد التحول نحو التعددية القطبية، حيث لم تعد الهيمنة الأميركية أمراً مفروغاً منه، بل أصبحت نفسها محل اختبار يومي.
تسلسل المواجهة: من إعلان الاستئناف إلى الذروة
بدأت الجولة الثانية من الحرب العدوانية الأمريكية على اليمن في 11 مارس 2025 بإعلان القوات المسلحة اليمنية استئناف الحظر البحري على السفن الإسرائيلية، في خطوة تمهيدية أشارت إلى جهوزية استراتيجية للدخول في مرحلة مواجهة بحرية إقليمية واسعة.
وبحلول 15 مارس، دخلت الولايات المتحدة الحرب رسمياً عبر إطلاق عملية "الفارس الخشن" (Rough Rider)، بأمر من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي برّر الحملة العسكرية بأنها رد على ما وصفه بـ"القرصنة البحرية وتهديد السفن الأمريكية والإسرائيلية".
وفي 16 مارس، افتُتحت أولى الاشتباكات المباشرة مع البحرية الأمريكية، حين نفّذت القوات اليمنية عملية نوعية استهدفت حاملة الطائرات "يو إس إس هاري ترومان" والقطع المرافقة لها، مستخدمةً 18 سلاحاً هجومياً بين صواريخ باليستية ومجنحة وطائرات مسيّرة، في تنسيق مشترك بين القوة الصاروخية، وسلاح الجو المسيّر، والقوات البحرية.
تواصلت الاشتباكات بشكل يومي تقريباً، أبرزها:
تبعها إعلان أمريكي بفقدان طائرة أخرى من طراز F/A-18.
التحشيد الأمريكي ومحدودية فعاليته
تزامن التصعيد الميداني مع تحشيد عسكري أمريكي واسع النطاق، تمثل في نشر قوتين ضاربتين من حاملات الطائرات:
ترومان USS Harry S. Truman
فنسون USS Carl Vinson
وقاذفات الـ B2 , طائرات F 35 وغيرها من القوات والأسلحة والذخائر الدقيقة
تضمنت عملية "الفارس الخشن" عمليات قصف واسعة النطاق استهدفت مواقع يدعى الأمريكية أنها مواقع للقيادة والسيطرة والدفاعات الجوية في صنعاء وصعدة والحديدة. وتم الاعتماد على:
قاذفات استراتيجية بعيدة المدى من طراز B-2 من قاعدة دييغو غارسيا.
استخدام أنظمة اعتراض متطورة.
تنفيذ عشرات الطلعات الجوية يومياً من على متن "ترومان".
لكن سرعان ما ظهرت مؤشرات الضغط والاستنزاف المبكر:
مواجهة مباشرة وشلل مؤقت
استناداً إلى البيانات العسكرية، واجهت القوات الأمريكية ضغطاً تصاعدياً متواصلاً أدى إلى:
تقييم عام: معادلة الردع البحرية تتغير
تكشف حصيلة الجولة الثانية من الحرب عن تغير نوعي في قواعد الاشتباك البحري في المنطقة؛ فللمرة الأولى، تواجه البحرية الأمريكية تحدياً ميدانياً مباشراً من قوة إقليمية قادرة على فرض التراجع في ساحة مواجهة بحرية.
أثبتت اليمن قدرتها على تحييد أدوات الردع البحري الأمريكية، وفرض خطوط اشتباك أخرجت واحدة من أهم حاملات الطائرات من الخدمة العملياتية الفاعلة.
شهدت الجولة الثانية من المواجهة العسكرية بين اليمن والولايات المتحدة تحوّلاً نوعياً في موازين القوة البحرية والجوية، تجسّد في تصعيد عسكري يمني واسع النطاق استهدف الحضور الأمريكي في البحر الأحمر والبحر العربي، وارتكز على استخدام مركز ومنسّق للأسلحة الصاروخية والطائرات المسيّرة، ضمن معادلة ردع متدرجة أدّت إلى شلل مؤقت في القدرات الهجومية الأمريكية، وتآكل الردع البحري التقليدي للولايات المتحدة.
أولاً: الاشتباك البحري من الضربة الأولى إلى الذروة
تبدأ المرحلة العملياتية الحاسمة في 16 مارس 2025 حين أعلنت القوات المسلحة اليمنية استهداف حاملة الطائرات "يو إس إس هاري ترومان" والقطع المرافقة لها، بصواريخ باليستية ومجنحة وطائرات مسيّرة، في عملية وصفها الإعلام العسكري بأنها "مشتركة ومتزامنة" بين القوة الصاروخية وسلاح الجو المسيّر والقوات البحرية.
تتابعت العمليات بشكل يومي تقريباً خلال الأسبوعين الأولين، وبلغت ذروتها في:
30 مارس: ثلاث عمليات اشتباك خلال 24 ساعة.
18، 21، 22 أبريل: اشتباكات مزدوجة استهدفت "ترومان" و"فنسون" في البحرين الأحمر والعربي.
26 و28 و30 أبريل، و 6 مايو: عمليات متكررة انتهت بالتسبب في إسقاط طائرتين من طراز F/A-18 في عرض البحر الأحمر.
بلغ مجموع العمليات التي استهدفت حاملات الطائرات الأمريكية 24 عملية موثقة، منها ثلاث عمليات مزدوجة ضد حاملتي الطائرات.
ثالثاً: النتائج المباشرة والميدانية
إحباط الهجمات الأمريكية:
تم الإعلان عن إفشال 12 عملية هجومية جوية أمريكية خلال أقل من ثلاثة أسابيع، نتيجة تعطيل الطلعات الجوية من "ترومان"، وإجبار الطائرات على العودة من منتصف المسار بسبب خطر الدفاعات.
إجبار "ترومان" على التراجع:
في مطلع أبريل، اضطرت "ترومان" إلى الانسحاب شمالاً، بعد تعرضها لضربات متكررة، وإجبارها على الهرب من منطقة الاشتباك شمالاً في البحر الأحمر، ما أدى إلى فقدان السيطرة على الممرات الجنوبية للبحر الأحمر.
ضرب العمق اللوجستي:
تم تسجيل إصابة سفينة إمداد استراتيجية ترافق "ترومان"، ما مثّل تحولاً تكتيكياً في طبيعة الاستهداف من المنصات القتالية إلى خطوط الإسناد، وتنوع الأهداف.
خسائر نوعية في الطيران:
2 طائرتان من طراز F/A-18 سقطت خلال الاشتباكات، وفق تقارير أمريكية رسمية.
7 طائرات MQ-9 تم إسقاطها، ما شكّل نكسة استخباراتية وفقدان لأداة استطلاع وتوجيه هجومي مركزية.
رابعاً: النتائج الاستراتيجية
فرض قواعد اشتباك بحرية جديدة:
تحولت صنعاء إلى فاعل متحكم في مضيق استراتيجي عالمي، بعد أن نجحت في إخراج "ترومان" من مسرح العمليات، وإجبار واشنطن على استبدالها بـ"فنسون"، دون أن تحقق الأخيرة أثراً حاسماً.
تآكل الردع البحري الأمريكي:
اضطرت واشنطن إلى استخدام قاذفات بعيدة المدى B-2 من قاعدة دييغو غارسيا، ما يعكس انهيار القدرة على الحسم من الجوار المباشر.
تعطل منظومة السيطرة والقيادة الأمريكية:
تزامن الفشل الميداني مع فضائح استخباراتية داخل الإدارة الأمريكية، وضعف في التنسيق العملياتي، كما ظهر في تسريبات "سيغنال".
خاضت القوات المسلحة اليمنية معركة متعددة الجبهات في البحر الأحمر؛ مواجهة مباشرة مع القوات البحرية الأمريكية في البحر الأحمر، وردّ يمني مستأنف على العدوان الإسرائيلي المتجدد على غزة، ما جعل صنعاء تقاتل في جبهتين معلنتين، متحدية الهيمنة الأمريكية ومناصرةً للقضية الفلسطينية. وفي ظل هذه التعددية في المواجهة، برز الخطاب السياسي كجزء من المعركة لا مجرّد انعكاس لها، حيث عبّر كل طرف عن موقعه في المعركة بلغةٍ كشفت عمق ثقته، أو ارتباكه.
إعلان صنعاء استئناف العمليات العسكرية – خطاب سيادي بمهمتين
في أعقاب تجدد العدوان على غزة أعلنت القوات المسلحة اليمنية في11 مارس 2025م استئناف العمليات العسكرية ضد السفن الإسرائيلية، بعد تعليق مؤقت التزمت به منذ اتفاق وقف إطلاق النار.
جاء الإعلان اليمني كاستجابة مباشرة للتراجع الإسرائيلي عن التهدئة، واستئناف العدوان على غزة وحصارها، وأكدت صنعاء أن هذه العودة لا تهدف إلى التصعيد المجرد، بل إلى فرض معادلة جديدة قائمة على الردع، تحت شعار "الحصار بالحِصار والتصعيد بالتصعيد".
أعلنت صنعاء أنها تعتبر الضربات الأمريكية التي بدأت في 15 مارس عدواناً مباشراً على دولة مستقلة. لم تُفصل بين الحرب على غزة والعدوان الأمريكي، وأكدت في أكثر من خطاب أن الموقف من غزة ليس قابلاً للتفاوض أو التجميد تحت الضغط.
إطلاق "عملية الفارس الخشن"
من جهتها، أعلنت الإدارة الأمريكية في 15 مارس 2025، عبر الرئيس دونالد ترامب، بدء عملية عسكرية واسعة ضد جماعة أنصار الله، حملت اسم "عملية الفارس الخشن". وقدّم ترامب الحملة بوصفها حاسمة وردعية، تهدف إلى "حماية الملاحة الدولية" في البحر الأحمر، ووقف تهديد السفن العسكرية والتجارية، والتصدي للدعم الإيراني "للحوثيين". أُوكلت المهمة إلى حاملة الطائرات "هاري ترومان" في البداية ثم "كارل فينسون"، مع تفويض كامل للقيادة العسكرية بتنفيذ الضربات بلا هوادة، كما عبّر عن ذلك مساعد وزير الدفاع في 17 مارس.
ارتفعت نبرة التهديدات الأمريكية بشكل مطّرد حتى 25 مارس، حين وعد ترامب بـ"القضاء الكامل" على الحوثيين. غير أن تلك النبرة العالية لم تستمر طويلاً، إذ بدأت تتراجع تدريجياً مع توالي الفشل الميداني، وصولاً إلى تصريحات أكثر تبريرية، مثل ما صدر عن الخارجية الأمريكية في 6 أبريل، والتي أكدت أن العمليات لن تتوقف إلا بعد ضمان أمن السفن، دون ذكر أهداف استراتيجية أو سياسية.
الخطاب اليمني
اتخذ الخطاب اليمني منذ اليوم الأول طابعاً سيادياً، موجهاً إلى الداخل والخارج، ومبنياً على ثلاث ركائز متماسكة:
الرد على العدوان
الدفاع عن السيادة الوطنية
مساندة غزة بوصفها قضية مركزية.
في 16 مارس، وصف قائد الثورة السيد عبد الملك الحوثي الضربات الأمريكية بأنها "عدوان سافر"، وتوعد برد موجع.
في 19 مارس، تم الإعلان عن نية توسيع الحظر البحري ليشمل السفن الأمريكية، رداً على العدوان الأمريكي. وفي 26 مارس، أكدت تصريحات رسمية أن اليمن يخوض معركة بحرية بأساليب جديدة "ستصيب الأعداء بالذهول".
ما ميز الخطاب اليمني خلال هذه الجولة هو ثباته وتصاعده دون ارتباك، ولم تُطلق تهديدات غير محسوبة، ولم تُطرح شروط متبدّلة، بل تناغم الخطاب السياسي مع الإنجاز الميداني، من دون الحاجة إلى تضخيم أو مراوغة.
الخطاب الأمريكي:
بعكس اليمن، بدأ الخطاب الأمريكي مرتفعاً من موقع التفوق المطلق، لكنه سرعان ما بدأ بالتراجع مع تعثر الأداء الميداني. افتتح ترامب الحملة بلغة القوة الحاسمة، لكن في غضون أسبوعين بدأت تصريحات مساعديه تتجه نحو التبرير، ثم الإصرار على شروط دنيا لا تعكس الأهداف المعلنة سابقاً. وفي النصف الثاني من أبريل، بدأت وسائل الإعلام الأمريكية تنتقد الغموض الاستراتيجي، وظهرت فضيحة تسريبات "سيغنال"، التي كشفت عن انكشاف أمني خطير في إدارة العمليات، ما ضاعف من الارتباك السياسي.
أمام ذلك، حافظت صنعاء على خطاب متماسك يُراكم سردية الإنجاز، بينما ظهرت واشنطن وهي تتنصل تدريجياً من نبرتها الأولى، وتبحث عن مخرج تفاوضي لا يبدو استسلاماً.
وفي النهاية، لم تكن هذه الجولة اختباراً للقوة النارية فحسب، بل اختباراً للإرادة السياسية والرؤية الاستراتيجية، حيث خسرت واشنطن معركة الخطاب كما خسرت زمام المبادرة، بينما تقدّمت صنعاء في ميدان السياسة كما تقدّمت في البحر.
إذا كانت واشنطن قد بادرت بالتصعيد تحت شعار "استعادة الردع"، فإن المسار الميداني والتفاعلات الداخلية أظهرت لاحقاً أن الجولة تحوّلت إلى ساحة استنزاف علني للولايات المتحدة، بينما خرجت صنعاء من المعركة بتماسك عسكري، ورؤية سياسية، وتفوق إعلامي واضح.
أولاً: انهيار السردية الأمريكية أمام تصاعد الضغط الإعلامي والسياسي الداخلي
دخلت "عملية الفارس الخشن" المجال الإعلامي الأمريكي تحت غطاء "حماية الملاحة الدولية وردع الحوثيين". غير أن هذه السردية لم تصمد أكثر من أسبوعين أمام واقع المعركة، إذ بدأت كبريات الصحف ومراكز الأبحاث الأمريكية بالتشكيك في جدوى الحملة:
بلغت الأزمة ذروتها حين تفجّرت فضيحة "سيغنال"، التي كشفت عن تبادل مستشار الأمن القومي ووزير الدفاع معلومات عسكرية سرية في مجموعة دردشة غير رسمية.
أدى ذلك إلى إقالة مستشار الأمن القومي، وفتح تحقيق في البنتاغون حول الإهمال وتعريض الأمن القومي للخطر، ما زعزع ثقة النخب العسكرية والمدنية في القيادة السياسية.
ثانياً: الانقسام داخل الإدارة الأمريكية وتزايد الأصوات المعارضة للحرب
في خضم هذا الارتباك، بدأت تظهر تصدعات داخل مجلس الأمن القومي والكونغرس:
هذا الانقسام الداخلي، إضافة إلى ضغط الرأي العام، أجبر إدارة ترامب على تعديل خطابها السياسي والادعاء بأن "العملية حققت أهدافها"، حتى مع استمرار الضربات اليمنية الناجحة وإسقاط الطائرات الأمريكية.
بحلول الأسبوع الثالث من المعركة، كانت الولايات المتحدة قد فشلت في تحقيق أي من أهدافها المعلنة: الهجمات لم تتوقف، الملاحة لم تُؤمن، والردع لم يُستعد.
في المقابل، بدا أن صنعاء قد ثبتت موقعها كطرف قادر على فرض شروط التفاوض من موقع القوة، ورفضت إدراج دعم غزة ضمن شروط وقف إطلاق النار، رغم ضغوط غربية متعددة، وبذلك اضطرت واشنطن إلى قبول تهدئة بوساطة عُمانية من موقع العجز لا من موقع التفاوض المتفوق.
شكّلت مخرجات الاتفاق خيبة أمل كبيرة لصنّاع القرار في تل أبيب، الذين اعتبروا أن واشنطن تخلّت عن التزاماتها الأمنية تجاه "إسرائيل". فقد جاء الاتفاق دون أي شرط يلزم صنعاء بوقف دعم غزة أو وقف الضربات الصاروخية على "إسرائيل"
1. فشل الاستراتيجية الأمريكية في استعادة الردع: أظهرت الجولة الثانية من الحرب أن الاستراتيجية الأمريكية القائمة على الحسم الجوي - البحري السريع قد أخفقت في تحقيق أهدافها المعلنة، إذ لم تتمكن من شلّ القدرات اليمنية، أو وقف هجماتها على السفن الأميركية والإسرائيلية، أو فرض معادلة ردع مستدامة في البحر الأحمر.
2. تحول اليمن من موقع التهديد إلى موقع المبادرة: أثبتت القوات المسلحة اليمنية قدرتها على الانتقال من موقع الدفاع إلى فرض المبادرة العسكرية، من خلال استهداف مباشر لحاملات الطائرات، وشلّ حركة الانتشار الأميركي البحري، وإسقاط طائرات متقدمة (MQ-9 وF/A-18)، مع تطوير واضح في كفاءة استخدام الأسلحة والتنسيق بين القوات الجوية والبحرية والصاروخية.
3. انكشاف المؤسسة العسكرية والسياسية الأمريكية داخلياً: كشفت الحرب عن أزمة داخلية في القرار الأميركي، تمثّلت في انقسامات داخل البيت الأبيض والكونغرس، وفضائح استخباراتية (فضيحة "سيغنال")، وتراجع في الثقة بين القيادة السياسية والمؤسسة العسكرية، إضافة إلى ضغط إعلامي متصاعد شكك في جدوى الحرب وشرعيتها.
4. نجاح صنعاء في توظيف المعركة ضمن مشروع تحرر سيادي: لم تكن المواجهة اليمنية محصورة في بعدها الدفاعي، بل اندرجت ضمن استراتيجية سياسية وإعلامية متماسكة، ربطت الدفاع عن السيادة بدعم فلسطين، وقدّمت اليمن كفاعل مقاوم مستقل، لا تابع لمحور، قادر على فرض خطاب سيادي ينافس خطاب المركز الإمبريالي نفسه.
5. تآكل شرعية الهيمنة الأميركية في البحر الأحمر: مثلت المعركة محطة إضافية في تصدع قدرة الولايات المتحدة على التحكم غير المكلف بالممرات الاستراتيجية، إذ تحوّلت من قوة مهيمنة إلى طرف يُستهدف بشكل دوري، ويضطر لتغيير تكتيكاته والانسحاب تحت الضغط، وهو ما يفتح الباب أمام إعادة تشكيل النفوذ في البحر الأحمر لحساب قوى جديدة.
6. الهزيمة المعنوية والسياسية لـ "إسرائيل": كشفت مخرجات الاتفاق الأميركي–اليمني عن تراجع موقع "إسرائيل" في حسابات الحلفاء، إذ لم تُدرج مطالبها الأمنية ضمن شروط التهدئة، ما أثار صدمة داخل المؤسسة السياسية والعسكرية الصهيونية، ورسّخ شعوراً بالخذلان من الحليف الأميركي.
7. تعزيز موقع اليمن في خارطة التعددية القطبية: أسهم الأداء اليمني في هذه الجولة في تثبيت اليمن كفاعل غير دولتي قادر على التأثير في معادلات الأمن الإقليمي والدولي، وأكّد أن الأطراف، رغم محدودية الموارد، يمكنها المساهمة في كسر المركزية الأحادية، وتمهيد الطريق لنظام عالمي أكثر توازناً.
8. أهمية الإعلام المقاوم كجزء من المعركة: برز الخطاب الإعلامي اليمني كأداة فعالة في المعركة، إذ استطاع أن يخلق سردية أخلاقية وسياسية نقيضة للسردية الأميركية، متمكناً من تحويل مشهد الحرب إلى معركة وعي، واستقطاب تعاطف شعبي محلي وعربي، بينما فشلت واشنطن في إدارة روايتها داخلياً وخارجياً.